اسم الرواية : نيلوفوبيا.
تأليف : د. عمر فضل الله
عدد الصفحات : 210ص
همسات قبل الانطلاق :-
ثلاث جلسات كانت كفيلة لخوض هذه المغامرة الشيقة قراءة ولولا الظروف الخارجة عن إرادتي لأنهيتها في جلسات أقل، وهذه الرواية – بالمناسبة – هي الرواية الثامنة التي أقرأها للمؤلف فقد قرأت له سابقًا:
1- رواية أطياف الكون الآخر.
2- رواية ترجمان الملك.
3- رواية أنفاس صليحة. (الرواية الحائزة على جائزة (كتارا للرواية العربية)).
4- رواية تشريقة المغربي. (الرواية الحائزة على جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي).
5- رواية في انتظار القطار.
6- رواية رؤيا عائشة.
7- رواية آدم أسود وحواء وبيضاء.
لم تخيب رواية (نيلوفوبيا) والتي بصدد الحديث عنها، ظني في قلم دكتور عمر فضل الله أبدًا. رواية ستفتح لك نافذة أو شاشة لترى أحداثها؛ لما فيها من صدق في المشاعر، ومن قوة وجزالة في الوصف والتشبيهات والاستعارات.. حتى أنني لم أشعر بالزمن وهو يمضي أثناء القراءة.
عنوان الرواية:-
معني مصطلح (نيلوفوبيا) الذي اختاره المؤلف ليحمل عنوان الرواية هو (رهاب النيل) فلو أخذنا المقطع الأول (نيل) وأضفنا له مقطع (فوبيا) سنجد أن المعنى (فوبيا النيل)، والفوبيا كما هو معلوم أنها الخوف المرضي من شيء معين.
قراءة في الرواية:
تبدأ أحداث الرواية بمشهد غرق أحد أبناء منطقة العيلفون وما حدث بعدها من هلع، وذعر الأهالي للبحث عن الغريق ثم محاولة إنقاذه. ثم تواصل السرد بصوت الشخصية الرئيسية في الرواية وهو (عبدالعزيز) الشهير بـ(عِزُّو).
يحكي لنا عبدالعزيز قصته حينما كان يلعب في النيل وغرق صديقه صلاح ثم مراسم الجنازة كل ذلك ذكر بالتفصيل، يروي لنا المؤلف بلسان هذه الشخصية التبعات النفسية التي أصابت (عبدالعزيز) من فقده لصديقه (صلاح). وأنه أصيب بعد هذه الحادث بخوف ورهاب شديد من النيل انعكس على تصرفاته فصار ليس كبقية أقرانه من الأطفال، حيث صار طالبًا شقيًا مؤذيًا أتعب والديه وأهل العيلفون، وحتى امتد الأمر ليصل إلى مدرسته.
تحدثت الرواية عن كل شيء في العيلفون، وشعرت لوهلة أن المؤلف يوثق هذه المنطقة وذلك الزمان من تاريخ السودان، فقد ذكر المؤلف دقائق الأمور، ذكر كل شيء (الأسواق) و(الشوارع) و(المحطات) و(المدارس) وحتى الشخصيات التاريخية الشهيرة في المنطقة كالشيخ إدريس بن الأرباب، والمغني (الجاغريو) وشخصيات من المنقطة.
تحدث المؤلف عن منطقة شهيرة في العيلفون وهي سوق الشجرة فلم يترك لا شاردة ولا واردة إلا وذكرها حتى (العجائز) اللاتي يبعن تحت شجر النيم ذكرهن، وهذا أمر يثير الاعجاب بحق، فكيف للمرء أن يتذكر كل هذه الأحداث وكل هذه الشخصيات والأماكن.. بالطبع لن تخرج إلا من شخص عشق تلك المنطقة وأحبها حتى استوطنت قلبه وعقله.
ولم يتوقف عند ذلك فحسب بل تحدث عن الثورات التي كانت في عهد الرئيس الأسبق للسودان (جعفر نميري)، وتحدث عن الأحزاب السياسية وما لها أو عليها من مآخذ وعثرات. وتحدث عن التغير السلبي الذي حدث في عهد نميري وانقل هذا الاقتباس:
” الناس في عهد النميري تغيروا كثيراً فأصبحوا مثل هذه الأرض البور، والكساد أطل بوجه قبيح والناس هجروا الزراعة يبحثون عن الوظيفة أو الكسب السريع. الجروف المجاورة للنيل في العيلفون والتي كانت تزود سوق الخضار في الخرطوم بجميع أنواع الخضروات لم تشهد زراعة البطيخ ولا الطماطم منذ زمان. المزارعون هجروها منذ دخول الكهرباء والتلفزيونات فهم يسهرون مع المسلسلات وينامون عن صلاة الفجر وقد كانوا في القديم يطربون لنباه (مانديد) وأذان (مجذوب) ويستيقظون مبكرين حتى لو سهروا مع حلقة النوبة في الخلوات أو مع المادحين وضاربي الطار. مزارعو العيلفون اكتفوا بزراعة البرسيم الذي لا يتطلب مجهوداً ولا رعاية ولكنه يأتي بعائد سريع!! والبلدات لم تعرف زراعة الذرة في الخريف عند هطول الأمطار في الجزء الشرقي من القرية منذ سنوات طويلة. وسمعنا أن وزير الحكم المحلي أصدر قراراً باستيلاء الحكومة على جميع الأراضي الزراعية المطرية والتروس وإضافتها لملكية الدولة وأصحاب التروس سكتوا خوفاً”.
لكنه أيضًا أنصف النميري والتوهجات التي حدثت في عهده وذكر أنه حتى طلاب المرحلة المتوسطة يمتلكون داخليات سكنية وامتيازات لا يملكها طلاب الجامعات في زماننا هذا. وذكر أشياء إيجابية أخرى تخللت سطور الرواية.
من خلال الرواية لم يترك المؤلف أي قضية أو أزمات كانت وما زالت تواجه السودانيين حتى يومنا هذا فقد تحدث عن فترة المراهقة عند السودانيين وما فيها من اضطرابات وعبث، وما بها من فراغ وضياع. وتحدث عن مسألة العنوسة والعزوبية وتأخر سن الزواج في السودان وماله من تبعات. وتحدثت عن مشاكل التعليم (المشكلة الأزلية في السودان)، ثم إنه جعلنا نحن من لم نر مجتمع الأساتذة ذلك المجتمع الغامض نتعرف عليه أكثر من خلال انضمام الشخصية الرئيسة إلى هيئة أعضاء التدريس في مدرسة الجريف الثانوية (بنات)، وتحدث أيضًا عن الطالبات في تلك الفترة من عمرهن، وتطلعاتهن وأحلامهن، وشقاوتهن.
نجد أن هذه الرواية متعوب عليها بحق فالمؤلف من خلال الرحلة التي أقامتها تلك المدرسة إلى القاهرة ذكر كل المحطات الرئيسة والمناطق والشخصيات، وأجواء الرحلة من خلال القطار، والامتيازات التي يتحصل عليها مسافرو الدرجات من الأولى وحتى الرابعة. واستمر كذلك يذكر كل شيء بالتفصيل في تلك الرحلة وحتى عندما انتهت الوجهة في القاهرة ذكر الشوارع والمحطات والمزارات السياحية الشهيرة. ثم من خلال حوار لطيف كان في أحد مقاهي القاهرة بين مدير المدرسة وأحد المصريين عن المشاكل التي تواجه البلدين ابتداء من مشكلة مثل حلايب وشلاتين إلى بقية الأزمات التي بين البلدين.
اختتمت الرواية بالحادثة المأساوية التي كانت بطلتها باخرة تسمى (العاشر من رمضان)، وما حدثت من مآسي تلت الانفجار العظيم الذي حدث في الباخرة وبغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى ذلك فإن القائمين بأمر الباخرة هم السبب فبأي وجه يحق لهم أن ينقلوا مواد بترولية قابلة للاشتعال والانفجار مع ناقلة ركاب، فنرى أن الجشع هو من أسوأ الأمراض الإنسانية التي تسبب تبعات خطيرة.
صور لنا المؤلف تلك الحادثة بكل تفاصيلها وأهوالها، والتهام التماسيح لمن استطاعوا النجاة والقفز من الباخرة، وأن جثث الموتى لم تسلم من ذلك فأكلت منها التماسيح حتى شبعت، وأن من لم تفتك بهم التماسيح فقد فتكت بهم العقارب التي كانت الآلاف منها تنتظرهم هنالك في شط النيل. ومن هرب من العقارب لم يستطع أن يسلم من نهشات وافتراس الذئاب.
أخيرا:
نجد أن المؤلف وثَّق لحظات تاريخية نسيت مع الزمن فأراد أن يخلدها من خلال قلمه، وقاريء الرواية بكل تأكيد سيتلمس اجتهاده وتعبه لتخرج الرواية للنور.
أحداث الرواية مؤثرة تترك مشاعر جياشة لدى كل من قرأها بقلبه قبل عينه.. وأخيرًا اختتمت الرواية بأحداث عجائبية خارجة عن المألوف والمعقول، وأدرجها تحت تصنيف الفنتازيا أو الماورائيات.