رواية الدكتور عمر فضل الله (رؤيا عائشة)

قراءة اجتماعية وتاريخية جديدة في حياة الإمام المهدي والمهدية

الدكتور عز الدين ميرغني

لأن دور المؤرخ في السنوات الأخيرة، أصابه العديد من التساؤلات، فقد أصبح دور الرواية كبيراً، في قراءة التاريخ بإمكانيات الرواية العديدة والمفتوحة، والتي تستمد مرجعيتها من عدة مصادر أهمها العلوم الاجتماعية، وعلم الفلسفة، ثم ثقافة الروائي ومقدرته التخيلية داخل نصه الروائي. ولذا أصبح دوره يفوق دور المؤرخ التقليدي، الذي لا ينفتح على تلك التجارب والمرجعيات.
فمع التفتح الحاصل في العلوم الانسانية والاجتماعية ظهرت كتابات جديدة متعددة وخصبة أهمها سير الحياة وسير الناس العاديين وسير فكرية استطاعت أن تفرض نفسها كحقل جديد يتصالح فيه التاريخ مع الرواية لإحياء الذاكرة التاريخية. ورواية “رؤيا عائشة” ما يحمد لها أنها قد كتبت التاريخ الفردي الرائع للإمام المهدي والذي أهمل كثيراً وضاع بين أقلام المؤرخ الأجنبي الذي لا يخلو من الغرض وتلاميذه الذين ساروا على منهجه دون عناء البحث والتقصي. وقد انتهج الروائي عمر فضل الله في هذه الرواية والتي يمكن أن نطلق عليها “رواية معرفة” انتهج ما يسمى علمياً (رهانات كتابة البيوغرافيا أو السيرة الغيرية التاريخية في الرواية الحديثة). وفي فرنسا في السنوات الماضية القريبة، وفي الكتابات التاريخية المعاصرة، هناك عودة للموضة، عودة للسرد، عودة للتاريخ السياسي، ثم كتابة السيرة سرداً. ولقد أفلح الروائي عمر فضل الله، في هذه الرواية أيضاً بدخوله في الحياة الخاصة للإمام المهدي، عن طريق زوجته “عائشة”، والتي هي الراوي الحقيقي لسيرة هذا الإمام الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه. لكى يثبت للتاريخ أيضاً بأنه شخصية كانت مؤهلة للدور الكبير الذي قامت به فكرياً وسياسياً. والرواية غاصت بذكاء وعمق حتى في الحياة اليومية للإمام المهدي. وبهذا يؤكد الجهد المعرفي والبحثي الكبير الذي قام به الروائي عمر فضل الله، بحيث يجمع كل ذلك ويضعه في قالب الرواية وشكلها المتعارف عليه.
في هذه الرواية والتي بذل فيها كل هذا الجهد، لكي تحيا فيها الحياة الاجتماعية وحتى الفكرية المنسية لهذا الإمام والتي غطى فيها صوت المعارك وصليل السيوف عنها. فقد اكتشفنا ما يسمى حديثاً (بالصرخة البيوغرافية). وهي التي تؤكد فردانية الإمام المهدي، أو كما يقول الناقد الفرنسي الشهير “دولوز” فقد اكتشفنا في هذه الرواية العمق الفكري والديني والإنساني، بل حتى الجانب السياسي المخفي في هذه الشخصية المتفردة.
ولعل العلاقة بين التاريخ والرواية ليست غريبة، فكلاهما يرضعان من ثدي الخبر. وأصدق الأقوال في ذلك، (أن التاريخ حبكات روائية)، وهو أيضاً (قص وسرد لأحداث حقيقية)، وكما قال الناقد الفرنسي الشهير “جيرالد جينيه”، (التاريخ هو رواية على لسان المؤرخ / المؤلف، لا على لسان الشخصيات نفسها أثناء الفعل). ورواية “رؤيا عائشة” تمثل البعد الزمني مع البعد الاجتماعي لشخصية الإمام المهدي. وإذا كان كما يقول البعض إن الكتابة التاريخية لا تتحدث عن الماضي إلا لكي تقوم بدفنه، ولكن الفن الروائي الأصيل والذي يوظف التاريخ، فإنه يقوم بإحيائه. ورواية “رؤيا عائشة” قامت ببناء حقبة مهمة من تاريخنا الحديث بطريقة فيها الحقيقة مغلفة بالخيال الذي تتطلبه الرواية. Fiction وحضور المادة التاريخية موجود في هذه الرواية ولكنه مغلف بطريقة إبداعية تخيلية، خاصة الحوار مع المهدي وملك الموت، والذي أورده الكاتب بمقدرة فائقة لكي يدافع المهدي عن كل اتهام وجه له. وأنه قد قبل هذا اللقب، لكي يجمع الناس حوله ليدحر الظلم والفساد الذي يراه حوله. قال وهو يدافع عن نفسه أمام عبد الله التعايشي (وما علامة هذا؟ وما هو دليلك؟ فقال له دليلي هو امتناعك عن قبول البيعة مثل ما فعلت الآن وهروبك منها، فالمهدي لا يعلم أنه المهدي…) وفي الحوارية الرائعة بينه وبين الخليفة عبد الله التعايشي أنه كان زاهداً في لقب المهدي، وهمه الأول كان محاربة الظلم والفساد والاضطهاد.
لقد كان المهدي يتداعى في لحظات الاحتضار، وهو يخاطب ملك الموت ويخاطبه ملك الموت وهذه تقنية عالية استخدمها القليل من الكتاب في العالم، تقنية التداعي وقت الاحتضار وهي أشبه بالاعتراف الصادق والتداعي الحر، فقد دافع المهدي في هذه الفقرات القليلة عن كل تاريخه القليل الذي عاشه بعد حصار الخرطوم وسقوطها.
ورواية “رؤيا عائشة” بهده الحوارية قد خرجت من ما يسمى بالتاريخ الجامد، لحكاية الأحداث. وقد أتاح الكاتب لشخصية غير المهدي أو غير المقربين إليه، لتصفه وصفاً دقيقاً ورائعاً، وهي شخصية “ميمونة المجنونة”، وهو وصف برؤية نسائية صادقة بعيداً عن أهواء المؤرخين، وهذه الميمونة عندما هامت وتعلقت به فقد كان شخصية عادية تراه يأكل الطعام وتتبعه وهو يمشي في الأسواق، وكان هيامها به هياماً روحياً، وليس عشقاً جسدياً. (محمد أحمد من مثله؟ فأنتم لا تشبهونه … فأي بنت كانت تراه، ثم لا تشهق محبة له وتولهاً به؟ كان رجلاً فحلاً، وكان اسماً على مسمى، وكان قوي البنية، وبشرته سمراء، داكنة ومصقولة وبراقة، يلبس الجبة المرقعة بشرائط قطنية متعددة الألوان، ويضع فوق رأسه طاقية بيضاء ويلف حولها عمامة، ويلبس سروالاً فضفاضاً وصندلاً في قدميه، وأصابع يديه طويلة ومستقيمة، وأظافره نظيفة ومقصوصة ومرتبة دائماً، ولكن مهما قلت فلن أستطيع وصفه فهو عصي على الوصف.) وعندما تقربت منه قال لها: (أنا رجل فقير وأخشى الفتنة). ولعل وصف ميمونة وتولهها به، والتي ليست مجنونة، يضيف إلى شخصية المهدي بعداً روحياً عميقاً تقربه من درجة الصلاح والولاية.
ركزت هذه الرواية والتي تناولت سيرة الإمام المهدي، بعيداً عن البطولة والانتصارات، وإنما كشفت عن الجانب الإنساني العظيم والذي بداخله وتغافلت عنه كتب التاريخ الصامتة والجامدة، ذلك الذي رفض أن يقتل غردون، وقتل بدون علمه، وسبيت النساء وقتل العلماء أيضاً بدون علمه مما يدل على أن كل ما ارتكب من أخطاء في فترة حياته القصيرة ما كان مسئولاً عنها، وكل ما تم بعد مماته المشكوك فيه كان سيتبرأ منه.
لقد تميزت هذه الرواية بعدة مزايا من ناحية الشكل الفني، فقد وظف الكاتب فيها ما يسمى (التناوب) فقد كانت حياة المهدي تسرد عن طريق زوجته عائشة، والتي أخذ عنها جد الراوي الذي رواها له والده فاكتسبت من هنا مصداقيتها وحقيقتها التاريخية. ولا يستبعد أبداً أن يكون الراوي الحقيقي هو مؤلف الرواية نفسه، والذي سمع من أبيه الذي سمع من جده. والراوي الحقيقي هو عائشة، والتي تجعل المصداقية في قمتها لأنها أقرب الناس إليه. وأقرب الناس إلى حياته الخاصة البعيدة عن التفخيم والتضخيم وعن التزوير أيضاً. فشهادتها ليست سماعية hear saying مشكوك في أمرها، وإنما رواية صادقة خالية من الغرض، وعندما كانت تروي ذلك كان المهدي في رحاب الله. ولذا أدخلت ما روته عن المهدي في مدرسة روايات الحياة التي تتناول الحياة الخاصة لمن تروي حياته وسيرته. ومن هذه التقنيات التي وظفها الدكتور عمر فضل الله في رواية “رؤيا عائشة”، تَخَلَّصَ بذكاء واحتراف الكتابة الروائية، تَخَلَّصَ من عبء التاريخ الصامت الثقيل والموجود في الكتب التي يعرفها حتى طلاب المدارس الثانوية في حصص تاريخ السودان الحديث، وتَخَلَّصَ من قيود السيرة الغيرية التي تجعل كاتبه ناقلاً يعتمد على مصداقية الآخرين أو كذبهم. ولقد استطاع بمعرفته للتاريخ الشخصي للمهدي، وأخذ الخطوط العريضة لمفتاح شخصيته وخاصة الجانب الروحي فيها فقد كان متصوفاً بدون شطح وخروج، وكان سنياً بدون تطرف وغلو، وبهذا تكون شخصيته متوازنة وهي المفتاح الرئيسي لشخصيته التي جمعت لها القيادة حباً وطواعية. وهو الجانب المهم والذي غفل عنه المؤرخون جهلاً أو قصداً وعمداً وتنبهت له بجرأة ومعرفة رواية “رؤيا عائشة”.
تقول عنه عائشة: (إلا محمد احمد فقد كان دائم الجذب، رغم أنه كان حافظاً للقرآن، دارساً لفقه مالك وموطأ مالك، وفقه الشافعي، وأبي حنيفة إلا أنه رفضها جميعاً وقرأ مؤلفات محي الدين ابن عربي والإمام الغزالي، وكان مطلعاً وقارئاً فلا أظنه كان يجهل صفات الإمام المنتظر. وأظنه كان مدركاً أيضاً في أول الأمر، أنه ليس المهدي، ولكنه قبل دعوى المهدوية لكونها توصله لغاية جمع الناس حوله، لحرب الأتراك، ثم يبدو أنه أشربها في نهاية الأمر، وصدق أنه هو المهدي المنتظر).
إن رواية “رؤيا عائشة” تدخل بجدارة في روايات ما بعد الحداثة، فبجانب تلك التقنيات في الشكل التي توظف جيداً، فأضاف لها المؤلف تقنية التناص Intertextuality ليجعل من نصه الروائي يتفاعل مع عدة نصوص أخرى. وفي هذه الرواية، يمكنكم تتبع التناص على شكل المحتوى والمضمون، فيستعين الروائي عمر فضل الله في صورة اقتباس (ميتا نصي) بالآيات القرآنية، وأقوال محي الدين بن عربي، وبعض الفلاسفة من المتصوفة الذين تناسب لغتهم اللغة السائدة في زمن الإمام المهدي. وفي هذه الرواية زالت الحواجز بين النصوص الأدبية Fiction والنصوص غير الأدبية Non Fiction وتلاشت الحدود بين الشعر والنثر، مولدة نسيجاً أدبياً يقبل التعددية والتنوع ليقدم وجبة دسمة يتمكن خلالها القاريء من إعادة النظر في المسلمات التي ملأوا بها أفكاره عن هذه الشخصية السودانية العظيمة والتي كانت مواكبة في أقوالها ما قامت به أفعالها.
لعل هذه الرواية، قد كتبت الكثير من المسكوت عنه تاريخياً، بأسلوب هاديء وجاذب ومقنع للمنطق التاريخي للأحداث، وتعتبر رغم بعدها عن الكتابة التاريخية الفجة، بأنها وثيقة اجتماعية عن حياة المهدي الحقيقية، وزهده في السلطة والتسلط وسفك الدماء ورفضه منذ البداية فكرة المهدي المنتظر، فهو قد كان يعرف مبدئياً الحال والفساد الأخلاقي الذي وصلت إليه بلادنا في فترة التركية والكولونيالية البريطانية. ولعل عنوانها وعتبتها الأولى كانت أول عوامل الكشف والجذب لها بحيث أن الرؤيا تمثل الكشف الصادق والحقيقي وعندما يكون من امرأة فهو يؤكد مصداقيته أكثر من رؤيا رجل، قد يكون ضحية لأفكاره وأجندته المعلنة والخفية، وهذه المصداقية جعلت المرأة على مدار التاريخ تبتعد عن كتابة التاريخ، وتقترب أكثر وأكثر من عالم الحكاية والسرد.