مضى أكثر من (28) عاماً.. ولكن ما زالت تفاصيل الـ (72) ساعة الأكثر رعباً وخوفاً عالقة في أذهان الناجين من الباخرة (10) رمضان القادمة من أسوان إلى ميناء وادي حلفا وعلى متنها (725) راكباً من ضمنهم نحو (50) طالبة من مدرسة الخير حاج موسى الثانوية بأم دوم في منتصف ليلة 42 مايو 1983 وهي راسية بالقرب من جبل في عرض النيل على بعد حوالى (200) متر من شاطئ أبوسمبل. مشاهد لا تخطر على بال أحد رواها الناجون لـ «الرأي العام» من داخل منزل صلاح اسماعيل العماس (65) عاماً أحد الناجين وفقد أسرته في الرحلة المشؤومة.. ونفتح أيضاً ملف الديات والتعويضات لأسر الضحايا الذي ظل مغلقاً طيلة (28) عاماً.
—-
الرحلة المشؤومة
من منا لم يشاهد الفيلم العالمي (تاينتك) الذي سرد تفاصيل رحلة الباخرة العملاقة التي غرقت في أول رحلة تقوم بها ويقودها أمهر قبطان على وجه الأرض إثر اصطدامها بجبل جليدي في المحيط الأطلنطي.. ورأيتم حتماً.. آيات الخوف والرعب التي اكتست وجوه الركاب واندفاعهم الى عرض المحيط هرباً من الموت، قد تكون تفاصيل مشهد حادث (10) رمضان قريباً من مشاهد الفيلم أو أصل الحادث، ولكن قد تكون أقل بشاعة ومأساوية من حادثة العاشر من رمضان التي إلتهمت نيرانها (400) من الركاب.. غرقاً، واحتراقاً، وخوفاً، وبلدغات الأفاعي وثعابين الصحراء القاتلة، مرت على الحادث (28) عاماً ولكن الناجين ما زالوا يعيشون دقائق الرعب وما زالت مشاهد تطاير شظايا الركاب ودوي انفجار براميل الوقود يتردد في آذانهم ومازالت مرارة فقد ذويهم تقف في حلوقهم لم تزلها كل هذه السنوات.

بداية الرحلة
الزمان: الساعة الرابعة بعد ظهر السبت 23مايو 1983، المكان: ميناء أسوان النهري، سارع الركاب بحجز أماكنهم بعد إطلاق الباخرة بوق التحرك، وفي الرابعة والنصف أمخرت الباخرة 10رمضان في عباب النيل متجهة صوب ميناء وادي حلفا بالسودان. الردهات تضج بالضحك والغنا، وآخرون يفترشون أرضية الصندل، والأطفال يجرون هنا وهناك، واحد فقط من بين الركاب كان يجلس على حافة الصندل ينظر الى الأفق وبدا غير مطمئن، وكأنه كان يدرك بأن هذه الباخرة تقودهم الى الهلاك، خاصة أن الحمولة الثقيلة جعلت الباخرة تغوص الى مستوى عميق يكاد يلامس الماء بيده وربما قد لامسه. سارت الباخرة (24) ساعة تتهادى على سطح المياه كمركب ورقي.. وبالرغم من هدوء الطقس وحتى أعلن طاقمه إرسائها بالقرب من جبل في عرض النيل على بعد (200) متر من قرية «أبوسمبل» المصرية.

ليلة الرعب
كان شيئاً لا يمكن وصفه.. أنه أشبه بالقيامة هكذا بدأ صلاح اسماعيل العماس (65) عاماً أحد الناجين «وفقد زوجته آمنة.. وأبنائه بابكر وحسام وسليمة، أفراد أسرته في تلك الرحلة المشؤومة» واسترسل بقوله: في الساعة الثانية عشرة إلا عشرة دقائق مساء نزلت من الطابق العلوي الى الطابق الأسفل لأجلب لبناً لابني البالغ من العمل (6) سنوات، وبعد أن أخذت اللبن وأنا في طريقي الى السلم رأيت خيطاً من الدخان يخرج من مكان ما لم أتمكن من معرفة مصدره لأن الوقت كان ليلاً.. فأسرعت الى غرفة طاقم الباخرة وجدتهم يجلسون في منضدة ويتناولون الشراب ويلعبون الورق.. قلت لهم بأن هناك دخاناً يخرج من مكان ما، فسخروا مني في الأول وعندما وجدوني جاداً ومصراً على كلامي، ركل أحدهم الباب بقدمه ويبدو أنه كان هناك تسرب في أنبوب الغاز في المطبخ ومع اندفاع الأوكسجين الى الغرفة هبت شعلة ضخمة من النار ونشبت في فرد الطاقم واستشرت بسرعة رهيبة في أرضية الباخرة المفروشة بسجاد مصنوع من المواد البترولية واشتعلت الباخرة في ثوانٍ معدودة وباتت كتلة من اللهب غير ان مقدمتها لم تصلها النيران فاندفع الركاب نحو المقدمة هرباً من جحيم النيران، وبما أن الباخرة كانت تحمل على متنها كمية كبيرة من أنابيب الغاز وبراميل الوقود مليئة ساعدت في استشراء النار.
كل هذا في لحظات معدودة.. مما شل تفكيرنا لمدة من الزمن كنت أجري هنا.. وهناك، واختلط صراخ الركاب مع عويل النساء، وسيطر الهرج على الموقف، الركاب يتساقطون واحداً تلو الآخر بينما اندفع بعضهم نحو حافة الصندل، للقفز الى النيل، أو العبور الى الجبل بالحبل الذي يربط الباخرة، ورأيت بأم عيني مشاهد تقشعر لها الأبدان.. صمت برهة.. وواصل بقوله: أشبه بأفلام الرعب الذي نشاهدها في القنوات الفضائية، رأيت رؤوساً تتطاير.. والدماء تنفجر مثل النافورة من الأجساد التي فصلت منها رؤوسها.
عاد الى الصمت قبل ان يسترسل قائلاً: كانت التفجيرات رهيبة.. وكان من الصعب تحملها.. أصابت الجميع بالجنون والهستيريا.. ومات البعض من شدة الخوف لأننا بعد إنجلاء الموقف فحصنا الجثث وجدنا بعضها سليمة، واعتقد بأنهم قضوا رُعباً.
و«بعد صمت» عاد يروي لنا مشاهد اللحظات العصيبة قائلاً: حاولت الصعود فدفعتني قوة النيران الى الأسفل ورأيت أشلاء الركاب تتطاير أمامي من قوة انفجار البراميل واندفعت الى الحبل الذي يربط به الباخرة مع الجبل.. وخلفي حوالى «80» شخصاً يحاولون الإمساك بالحبل، ولكن النيران شبت في الحبل وقطعته ولكنني استطعت النزول الى النيل وقطعت حوالى «50» متراً سباحة الى الجبل، ورأيت عشرات الجثث تطفو في محيط الجبل، لحظتها لم استطع التماسك وقلت في قرارة نفسي: لقد راحت أسرتي لماذا أنا أعيش؟ وقذفت بنفسي الى عرض النيل وغصت الى الأعماق.. ولكن إرادة الله، نفضتني سمكة «قرموط» كبيرة الى سطح الماء لأجد نفسي بجوار حطام الباخرة التي أبعدتها الرياح الى عرض النيل بعد انقطاع الحبل، تسلقت الى سطح الباخرة، وجدت جثث الركاب وأشلاء المحترقين متناثرة هنا وهناك وآخرين كانوا مختبئين بالحمام.

نجاة طفل
وبينما أبحث ببصري في الأرجاء أملاً في أن أعثر على أحد أفراد أسرتي سمعت صراخ طفل صغير عمره نحو «6» أشهر «عرفت فيما بعد بأن والديه ماتا حرقاً» حملته، ووضعته في طشت معدني ودفعته نحو الجبل، كل تلك اللحظات بالرغم من أنني أتذكر وأعي تفاصيلها ولكنني كنت في حالة فقدان وزن، وربما تجاوزت مرحلة الذهول الى مرحلة أخرى لا أعرف كنهها. واستطرد بقوله: كل هذه الأحداث لم تتجاوز مدتها «30» دقيقة أو أقل – وبعد ساعتين لاح في الأفق «لنش» حملني ومن نجوا الى الجبل – وجدت رفيقي بابكر هناك ولكنه كان متماسكاً، وكان يقول لي بأن «أسرتي ما زالوا أحياء – ليبث الطمأنينة في قلبي.. أو ربما أراد ان احتفظ بما تبقى من تماسكي، وقادني الى حيث تسجى جثة شقيقته في صخرة والتي لدغتها عقرب وماتت في الحال، وعندما حاولت الصراخ مسكني من كتفي وهزني قائلاً: «أرجوك أنت كبيرنا هنا – يجب ان تتحلى بالشجاعة حتى نستبين ما نفعله. وبالفعل كان لحديثه هذا مفعول السحر، وتماسكت قليلاً.
ويقول صلاح بأن عدد الركاب الذين قضوا نحبهم في تلك الحادثة «400» شخص من أطفال ومسنين وشباب. ما بين محترق أو من مات من الخوف أو غرقاً، ويعود الى تفاصيل الليلة المشؤومة قائلاً: وصلت فرقة إنقاذ من أسوان ومن بينهم ضفادع بشرية لإنتشال الغرقى، كنا نرقبهم من بعيد رموا شباكهم في النيل، وبعد كل ربع ساعة أو أقل يخرجون الشباك مليئة بالغرقى ممسكين ببعضهم، فانتشلوا نحو «100» جثة حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي ونقلوها باللنش الى «أبوسمبل».

هروب الطاقم
ويروي صلاح موقف طاقم الباخرة عندما اشتعلت النيران بها – يقول: بأنهم عندما وجدوا أمامهم النيران منهم من بات يبحث عن «أنابيب الإطفاء» أو أطواق النجاة إلا أن ظنهم خاب حيث وجدوا الأنابيب فارغة ولم يجدوا سوى جراب الأطواق فلم تكن هناك أطواق نجاة من الأساس، في لحظتها انطلق أفراد الطاقم إلا اثنين منهم بزورق وعندما حاول أحد الركاب اللحاق بهم هربوا تاركين الركاب يواجهون مصيرهم لوحدهم ودفعوه خارج الزورق فمات غرقاً وعاد ليسألني أين المسؤولية هنا؟ كيف يتركوننا ويهربون؟
المهم – عندما أشرقت الشمس رأينا الجثث تطفوا على النيل – بينما وجدنا أشخاصاً ماتوا ولكنهم ظلوا على هيئتهم التي توفوا عليها، حيث تجد من كان يحاول الصعود الى الجبل ولدغته عقرب رملي، وآيات الرعب بادية على وجوههم، ومنهم من اقتات جثته السمك الصغير، فأخرجناهم بواسطة فرقة الإنقاذ ونقلناهم الى «أبوسمبل»، التي خرجت عن بكرة أبيها لمساعدتنا بالطعام والملابس حيث كان أغلبنا عراة ليس في أجسادنا غير الذي يستر عوراتنا، ونقل المرضى الى المستشفى، وفتحت السلطات المستشفيات للمرضى – وفتح المواطنون بيوتهم للركاب المنكوبين – وكذلك المساجد – وزارنا وفد عال المستوى على رأسهم رئيس الوزراء المصري آنذاك د. فؤاد محيي الدين، ود. آمال عثمان وزير الشؤون الاجتماعية المصرية للتعرف على جثث الموتى، فوجدت أن «ابني 6 سنوات، وابني 16 سنة. وبنتي 17 سنة، وزوجتي وجدتهم لقوا حتفهم».

الديات والتعويضات
لم يعر أحد من الضحايا الأحياء أو ذوي الذين قضوا نحبهم في الباخرة اهتماماً بالتعويضات أو الديات لأن الذي حدث كان رهيباً لم يجعلهم يفكرون في شىء كهذا في وقته أو في السنوات التي مضت، ولكن اجتمع الضحايا وذوي المتوفين بالجريف «شرق وغرب» واقترحوا ان يتقاضوا تعويضات الحادث للمساهمة في إنشاء مستشفى للأطفال صدقة لأرواح الضحايا جاءتهم الفكرة بعد أن حرك مكتب الاستاذان محمد حسن خليل المحامي وكمال موسى المحامي بأسوان هذه القضية منذ «3» سنوات بصفة طوعية دون أخذ توكيل من الضحايا.

عوائق القضية
تقدم المكتب بعريضة الى المحكمة بأسوان بفتح ملف قضية الباخرة «10 رمضان» وبالفعل تحركت القضية وأخذت أبعاداً جدية باكتمال الملفات وعدد الضحايا الذين بلغوا «400» راكب غير البقية الذين نجوا ويبلغون «325» شخصاً، وأثبتت نتائج الفحص الفني للباخرة أن سبب الحادث إهمال من طاقم الباخرة، وعدم وجود طفايات وأطواق نجاة الى جانب وجود مواد ملتهبة ومتفجرة غير مسموح بها، وحكمت المحكمة على المتهمين بالسجن مع وقف التنفيذ، الى جانب إلزام «شركة» أو هيئة وادي النيل للملاحة بدفع الديات للقتلى، غير ان الشركة رفضت دفع الديات بحيث ساقت مبرراتها بأن «قائمة» الضحايا تحتوي على أشخاص مجهولين وعدم وجود أوراق تثبت هوية الضحايا، وابتعث مكتب المحامي أحد عملائه الى الخرطوم واسمه صالح أحمدعبدالرحيم ويقول صالح بأنهم حصلوا على قائمة الضحايا الى جانب مقتنياتهم من الذهب والحلى «كتابة» إلا أن الشركة رفضت الاعتراف بصحة الأسماء التي على القائمة لعدم وجود أوراق ثبوتية لهم، فجئت الى السودان بحثاً عن أسر الضحايا وبالفعل وجدت عدداً قليلاً منهم، والآن أنا في مرحلة بحث للعثور على البقية، وأضاف: وبالرغم من وجود قائمة المتوفين في «هيئة وادي النيل للملاحة» شركة سودانية – مصرية إلا أنهم أخفوا عنا الأسماء، ونحن ننوه أسر الضحايا الاتصال بنا لمنح التوكيلات للمكتب لإكمال الإجراءات واسترداد حقوق أسر الضحايا.
فيما تحدث الناجون لـ «الرأي العام» فيما يختص بقضية الديات، وبأنهم لم تكن لديهم المقدرة للمطالبة بتعويضات ذويهم الذين ماتوا في الحادث لأنهم لم يجدوا من يحرك هذه القضية، والآن وجدنا مكتباً بأسوان حرك القضية طواعية منذ «3» سنوات واستطاعوا الوصول الى مرحلة الحكم بالتعويض إلا أن الشركة تماطلت لسبب أو آخر ونحن نناشد المحامين السودانيين الوقوف معنا لأن ما حدث لم يكن أمراً هيناً كما نناشد المسؤولين والسلطات العدلية السودانية التحرك لإسترداد حقوق مواطنيها.
ونأمل من الحكومة السودانية تحريك هذا الملف مع شركة «هيئة وادي النيل للملاحة» الرافضة تعويض أسر الضحايا.
?? أخيــــراً ??
حجم المأساة والكارثة لم يكن هيناً.. لدرجة إحجام أسر الضحايا بالمطالبة بتعويضاتهم كل هذه السنوات، ولكن تحرك جهة قانونية للقضية دفعهم للبحث عن حقوقهم وعزموا ان يسهموا بها في إنشاء مستشفى للأطفال، وعليه يناشدون أسر ضحايا «10 رمضان» الذين يتوزعون في كل مدن السودان الإتصال بمندوب مكتب المحامي بأسوان.. هاتفه بطرف المحرر.