د. عمر فضل الله من خلال هذه الرواية قد قدم الرواية المعرفية التاريخية بأبهى صورها ممزوجة بالخيال دون التأثير على الواقع، ونجح أن يؤلف بين الخيال والواقع ويجعله ينساب كما تنساب المياه خلال أوراق الأشجار. وهذا ما التمسته في العملين السابقين اللذين قرأتهما له وهما رواية أنفاس صليحة ورواية أطياف الكون الآخر.

فرواية أطياف الكون الآخر قد شملت الكثير من الأحداث والحقائق والمعرفة ومن ما قرأته؛ كنت أتعجب أثناء القراءة من المعرفة التي يمتلكها الدكتور، والتي خولته من خلال روايته أطياف الكون الآخر أن يسافر بنا وينقلنا عبر مختلف حقب الأرض منذ العهد الأول للبشر وحتى العصر الحديث.

وبالحديث عن رواية ‹‹ تشريقة المغربي ›› و تحديدًا أسلوب السرد فيها ومجرياتها تشعر بأن المؤلف حفظه الله قد صعد مركبة الزمن وانتقل إلى ذلك الزمان وقد نجح في أن يصف لنا السودان وصفًا دقيقًا في تلك الحقبة على لسان بطل الرواية المغاربي، الأندلسي، كاتب حِجج السلطان ‹‹ عبدالسميع بن إبراهيم ›› زوج المغاربية ( صُلحة ) والتي يناديها الناس (صُلَيحة) لطفًا ودلالًا.

ولمعرفتها أكثر أنصح بقراءة رواية أنفاس صليحة قبل قراءة تشريقة المغربي لأنني أعتقد أنها يمكن أن تعتبر الجزء الأول من رواية تشريقة المغربي رغم انفصال القصتين عن بعضهما لكن الثانية تعتبر مواصلة للأولى.

تدور أحداث الرواية في القرن السادس عشر الميلادي وتحديدًا حينما نقل مقر الحكم إلى سنار بعد بضع وعشرين عامًا من سقوط سوبا. أعجب سلطان سنار بالمغربي عبدالسميع وقرر أن يعينه كاتب الحجج الخاص به. ومن خلال النص ستتعرفون لِمَ اختاره هو بالذات لشغل هذا المنصب. في بدء الرواية هنالك بضع جزئيات طريفة وذلك حينما علم عبدالسميع أن القائد (شاور) الذي ابتعثه السلطان لطلبه هو الوحيد من يصلي في القوم وكان في صلاته لا يعرف عنها وعن أذكارها شيئًا ولا يحفظ الفاتحة أم الكتاب ولا أي سورة أو آية غيرها وكان يقول في صلاته الجهرية بعد تكبيرة الإحرام: (الصلاة صلاتك والوطا وطاتك. نقع ونقوم على انجلاتك). الله أكبر وكان يقصد بذلك أنه يخاطب الله سبحانه في صلاته قائلًا: الصلاة لك يا الله والأرض، وأنا أقوم وأقع تمجيدًا واجلالًا لك. رغم طرافة هذا المشهد الذي صوره المؤلف على لسان بطل القصة إلا أنه أشعرني بالحزن لأنه في ذلك الزمان كان الجهل فاشيًا حيث لم يكونوا يعرفون عن الإسلام شيئًا سوى اسمه وكان رجال الدين يستغلون ذلك الجهل لخداع الأبرياء بادعائهم المكانة العالية والولاية الصالحة.

وقد ساءتني الأحداث بعدها حيث أن سكان تلك المنطقة بسطاء أشد البساطة فنساؤهم لا يرتدين ما يستر سوءاتهن بالكامل ورجالهم الفقراء يكدون ويتعبون ولا يجدون مقابل ذلك سوى الذل والإهانة من الأغنياء. وقد تفشت في ذلك الزمان ظاهرة الرقيق والسبايا وقد كانت شيئاً عادياً وطبيعياً في المنطقة.

وقد أعجبني في هذه الرواية وصف الكاتب لأحدى الأصوات التي تستخدم في العامية السودانية حتى يومنا هذا وأحد تلك الأصوات يعني ( نعم ) والصوت الآخر يعني ( لا ). أجاد المؤلف إيصال ذلك الصوت للقارئ و حينما استطعت تميزه رسمت بسمة على وجهي.

هناك جزيئات وفجوات في التاريخ لم تذكر وقد دفنت وظلمت واستطاع المؤلف أن يخرجها من المدفن ويسلط الضوء عليها فاستطاع من خلال الرواية أن يذكر شيئاً عن كل شيء في تلك المنطقة واستطاع أن يؤلف بين الزمكان ( الزمن والمكان ) فقد انصب تركيزه على السودان في باديء الأمر وبعض الأحداث ستصف لك شيئًا عن الوباء الذي حلَّ بالمغرب ذلك الزمان مما جعل الكثير من المغاربة يهاجرون شرقًا فمنهم من ذهب قاصدًا الحج ومن ثم رجع واستقر في بلاد النهرين (السودان) ومنهم من رحل قاصدًا السودان لما علم من أهلها من الطيبة وحسن الضيافة وتقبل التعدد.

في الرواية فصل اسماه المؤلف (الرسالة) وفيه حديث عن الرسالة التي أرسلتها ‹‹ صُلَيْحة ›› إلى زوجها عبدالسميع وبعد أن عبرت عن شوقها وشكرها له على الجارية التي اسماها (زينة) والتي وهبها لها حدثته عن القصص التي كان يحدثها بها جدها الذي كان لها بمثابة الأب والجد. حدثها جدها عن الحضارة الإسلامية الاندلسية ذلك الزمان وعن مكاتبهم وعن المؤلفين وستتلمس مدى غزارة الإنتاج الفكري لدى المسلمين. وبالإسهاب في الحديث عنهم تجد أن الكاتب استطاع أن يتحدث عن بعضٍ من تاريخ المغرب والأندلس وتاريخ المنطقة في شرق إفريقيا. بعدها ما جاء ذكره عن الشريف داؤود الذي ادعى انه من آل بيت رسول الله وذكر الأحداث بينه وبين السلطان ‹‹ عِمارة ›› ولطفه وقد تجلَت في هذا الفصل مخاوف السلطان وعلمه باحتلال مصر من قبل العثمانيين وخشيته من الهجوم عليهم وبرزت خطة السمرقندي الجميلة لإبعاد التهديدات عنهم واحداث كثيرة ومشوقة تحدثت عنها الرواية . وذكر الكاتب في بعض من الأحداث على لسان إحدى الشخصيات عن التوراة والديانة اليهودية وعن اليهود وأطماعهم في خيرات بلاد السودان.

لن أذكر الكثير عن تفاصيل الرواية حتى لا أفسد متعة القراءة على من لم يقرأها وعلى من يقرأ مراجعتي هذه.

الدراما في هذه الرواية و الحبكة وجمال النص تغنيك عن قراءة الكثير من الروايات لما فيها من جمال الكلمات وانسياب العبارات والعقدة في النص وبعض الحقائق الكثيرة المدفونة تاريخيًا أو الموجودة ولكن لن تستطيع الحصول عليها من مصادر أخرى.

أعجبتني هذه الرواية وأدخلت في دهشة الاكتشاف الأول ولقد شعرت أنني كما الذي يحكي المؤلف الرواية على لسانه. شعرت أنني مغربي عاش في بادية المغرب لم يعرف شيئًا عن هذه البلاد ولا عن تاريخها ولا عن عاداتهم القديمة وعاداتهم الثرية وقصصهم الجميلة التي تلامس القلب قبل أن تلامس عينيك فتقرأها.

وكما كتبت عن رواية أنفاس صليحة فأنا أقول بأن الكاتب مختلف عن الكثير من الكتاب الذين لا يتعففون من خلال نصهم أو من خلال السرد وأحداث الرواية عن الحديث الداعر والمشاهد الفاحشة، فبعض الروايات تستحي أن تتركها خلفك ليقرأها غيرك أو لا تطمئن لإهدائها لصديقك أو أقربائك. فهذه الرواية راقية نظيفة ليس فيها من الفحش والتفحش. وأرى أنه يجب أن توضع هذه الرواية المعرفية التاريخية منهجًا للطلاب في فصولهم الدراسية فقد صاغ المؤلف التاريخ السوداني بصيغة روائية معرفية جميلة بعيدة عن الملل الذي يصيب القارئ اذا قرأ التاريخ، فهي ستعرفكم على عادات لم نعرف أصلها ولم نكلف نفسنا أن نبحث عنها كعادات الشلوخ في الخدين والشلوخ في الصدغ و دق الشفة السفلى. وكذلك كيف دخل التدخين والتنباك السودان وماذا كان رد فعل رجال الدين وكيف دخلت القهوة والبن ولما تنازع رجال الدين ذلك الزمان في أمر تحريم التنباك والتدخين الدخيلين الجديدين على البلاد. فالرواية تحتوي على المعرفة فلن يخرج منها القارئ دون أن يتعرف على تاريخ بلاده كما لم يتعرفه من قبل أو لكي تعرف بلاد النهرين (السودان) إن لم تكن سودانيًا. رغم التاريخ المحكي في الرواية فللرواية قصتها ونهايتها المفاجئة؛ ستفاجأ بالخاتمة وكم المعلومات الذي جنيته من خلال قراءة الرواية.

وكما ذكر المؤلف في الفصل قبل الأخير على لسان الشخصية التي يروي الرواية من خلالها : (“وربما تعجبك قليلًا فتحكي عنها لبعض أصدقائك”). وهذا ما حدث معي فعلًا. نشكر (د. عمر فضل الله) على هذه الرواية الجميلة، التي هي كسابقاتها اللاتي قرأتها: (أنفاس صليحة) أولًا و (أطياف الكون الآخر ) ثانيًا .