منذ أن يطالعك الإهداء تدرك أن د/ عمر فضل الله يغرس حجر الأساس لدرب روايته الأثيرة (تشريقة المغربي) فيدحض فيه الفهم المغلوط عن أفريقيا جنوب الصحراء بأنها أحراش وأدغال وعراة ويعلنها صراحة بأن الضد هو الصواب فيهدينا تشريقته المفعمة بسحر الأساطير وعبق التاريخ المضمخ بروائح الحقائق التي عاشها بطل روايته عبد السميع فيبدأها بضمير المتكلم وهو السرد الآني في سنار بمجلس السلطان عمارة ود عدلان ووصف جلسته العظيمة على الككر (كرسي السلطان) ومن حوله كلٌ على وفق رتبهم ومقاماتهم وأكثرهم خطورة هو مالك متولي تنفيذ طقس الإعدام بوجهه الذي نسي الابتسام كما وصفه الكاتب ثم يوجه نظرك إلى ذلك الفتى مرتدي الجلابة المغربية المخططة والمتحرّر من بلغته الصفراء ومعه أدوات الكتابة فهو كاتب حجج السلطان عبد السميع بن إبراهيم المغربي.

بتلك المقدمة المشوقة يُحدث عمر فضل الله فتقًا في خيمة التاريخ العظيمة؛ ليطل منه القارئ على مشهد مجلس السلطان عمارة دونقس ودعوة حميمة للقارئ ليشاركه الجلسة المهيبة للسلطان ثم تُستدرج إلى بداية الحكاية والتحول في مصير البطل عبد السميع فيكون سرد ما سبق حين صحبه الحاج عبد الحميد اللقاني الأندلسي من بلاد المغرب وعلمه بخراب سوبا وسقوط دولة علوة وتدميرها على يد عرب القواسمة وزواجه من صليحة حفيدة اللقاني ثم وجوده في بلاط السلطان ككاتب للحجج التي يشهد عليها علية القوم مثل: مقدم السواكر أو سياف الملك أو الجراي (جمع الضرائب) باعتبار عبد السميع المغربي هو الشاب المستنير العالم بالقراءة والكتابة في بلاط السلطان ورجاله الذين لا يكتبون العربية، ويزاد على أعماله تكليفه بإنشاء مكتبة وتعليم القواويد وأبناء السلطان.

ويوغل الراوي في تناوله لحوادث ووقعات أحدثت تحولات كبرى في حياته فيعود لسرد أيامه الأولى واستدراج الحدث التاريخي بتهديد القشتاليين لأهل الأندلس وهروبه برفقة عمه شمس الدين وخالته أنيسة اللذين وقعا في أسر القشتاليين ثم فقده الأب إبراهيم والأم فاطمة في وباء المغرب وتركه عند باب أحد المساجد حتى لا يصاب بالعدوى ونشأته يقاسي ويلات اليتم والوحدة والتسول والنوم في العراء إلى أن احتواه عبد الحميد اللقاني ورافقه في رحلة الحج وفي أثنائها علّمه القراءة والكتابة وعودتهما إلى بلاد النوبة والعنج المملوءة بصنوف الخيرات.

ويستعرض وقعات إحضاره لبلاط السلطان عن طريق القائد شاور في رحلة بين الأدغال وإهدائه الجارية تنتنة التي أطلق عليها اسم زينة ولغتها العربية الغريبة وتتجلّى براعة الكاتب في استجلائه لتلك اللغة حين نطقت زينة لفظة (جلنق) وهو مقطع صوتي وصفه بأنه يشبه صوت سقوط حصاه في الماء والذي يعني: نعم حين عرض عليها أن تكون في خدمة زوجته صليحة.

يجهر الراوي بالسبب الحقيقي لاستدعائه من قِبل السلطان عمارة وهو كونه مغربيًا فمعناه أنه يحفظ القرآن وحاجته لتعليم صبيانه، وقد علم السلطان بأمره من الشيخ عبد الله جماع الذي تولى تزويجه من صليحة.

لمقابلة السلطان عمارة طقوس شرحها القائد شاور لعبد السميع وأنه يلزم ألا يتجاوز حجرًا في قاعة المجلس وإلا سيد القوم (سياف الملك) لن يتوانى عن قطع رقبته إن تجاوز هذا الحجر ويتحاور السلطان مع غيره عن طريق مانا مالسنا (سيد الكلام) وهو مترجم السلطان المدرك والواعي لكل اللغات واللهجات.

وهو في خدمة السلطان عمارة جاءته رسالة صليحة التي تعلمت القراءة والكتابة عن طريق الشريفة عائشة بنت الشريف حمد أبو دنانة زوجة الشيخ عبد الله جماع التي أفردت له فيها ذكرياتها وشكرته على إرساله الجارية تنتنة (زينة)

يظل عبد السميع كاتبًا في بلاط السلطان عمارة ود عدلان ود أونسة حتى مات وهو على الككر وتم تعيين مكانه ابنه عبد القادر كسلطان قبل مواراة جسد أبيه وحكاية مقابلته الغريبة بالأميرة بياكي زوجة السلطان عمارة وطلبها إنقاذ ابنها من القتل على يد أخيه السلطان عبد القادر وهي عادة قديمة فيحبس إخوة السلطان الصغار في قصر السواكرة ثم يعدمون؛ والسبب الرئيس في ذلك هو عدم وجود أي خلاف بين السلطان الجديد وإخوته، قام بزيارة قصر السواكرة المهيب وحسب أنه سيجد الأمراء خائفين من مصيرهم ينهكهم الترقب ونحلت أجسامهم من فرط القلق والخوف بل على النقيض رأى فيهم عزمًا وإقبالًا على العلم والتدريبات العسكرية وتعرف على الأمير العشريني ابن الأميرة بياكي وحواره معه وعرضه عليه الهرب؛ لينجو من مصير القتل لكن هذا الأمير يفضل مصلحة المملكة على الهرب والنجاة بنفسه والصراع على الحكم ويرى في هروبه عارًا لا يقدم على اقترافه وفي أحد الأيام شهد عبد السميع بنفسه قتل الأمير أونسة الثاني وبقية إخوته بسيف أمير القوم وتقدموا لمصيرهم في شجاعة واستسلام تام وتأرجح بين إخبار الأميرة بياكي بقتل ولدها أم يتجاهلها وقرّر في النهاية أن يعود إلى زوجته صليحة والتي أخبرته أن شيخًا اسمه شمس الدين وزوجته أنيسة حضرا إلى هنا وانتابته فرحة غامرة بوصول عمه وخالته وكان اللقاء الذي أطفأ نيران ثكل عبد السميع لأهله سواء في الأندلس أو المغرب.

في هذا اللقاء الأسري لعبد السميع وعمه وخالته جاءت لحظة التنوير العجيبة والمكافئة لما قاساه عبد السميع طوال سنواته، فاللذان ماتا في الوباء ورآهم عبد السميع رأي العين مرميين في العراء (فاطمة وإبراهيم) ليسا أمه وأباه إنما في الحقيقة هما خالته وعمه ويخبره أبوه شمس الدين بحقيقة نسبه فخالته فاطمة مات ولدها واستعاضت عنه برضاعة ابن أختها عبد السميع ونشأ وتربّى في نفس البيت وكان وهو صغير يطلق عليها أمي في حين لم تر أمه أنيسة بأسًا فالخالة والدة وحين أرادوا الهرب من القشتاليين في المركب تمكنت فاطمة وزوجها إبراهيم من الهرب في حين وقع شمس الدين وأنيسة في الأسر وبعد نجاتهما وسفرهما إلى عدوة المغرب عرفا بموت فاطمة وإبراهيم وفقد ابنهما فحزنا وصبرا طوال السنوات الماضية حتى أخبرهما الشيخ عبد الحميد اللقاني بأن عبد السميع صهره وأنه حي يرزق وينهي الكاتب روايته بنفس الأسلوب الذي بدأ به على لسان عبد السميع: “وبعد، فقد كانت هذه حكايتي أنا محدثكم عبد السميع بن إبراهيم المغربي الذي بعدما عاد لي أبي أصبحت عبد السميع بن شمس الدين وعادت لي أمي فأصبحت ابن الحاجة أنيسة بنت الحاج موسى الغرناطي.

كتبت هذه الحكاية آخر العمر في ناحية علوان بمنطقة البطانة إلى الشرق من خرائب سوبا ومسيد الشيخ إدريس بن محمد الأرباب بالعيلة فونج”* صـ200

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــ

* تشريقة المغربي (رواية) عمر فضل الله والفائزة بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي 2018م. صـ 200

* عمر فضل الله: روائي سوداني مواليد أرض العيلفون شرق النيل الأزرق جنوب سوبا يناير 1956م حائز على درجة الدكتوراه في علوم الحاسب الآلي وأصدر عدة روايات تهتم بالتوثيق لتاريخ السودان منها: ترجمان الملك/ أطياف الكون الآخر/ نيلوفوبيا/ أنفاس صليحة/ تشريقة المغربي/ رؤيا عائشة. وترجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية.