قراءة في رواية ترجمان الملك للدكتور عمر فضل الله
بقلم إدريس الزياتي
كم من ساري الليل لا زال بيننا يختطف وينهب ويحيك الدسائس ، يسفك الدماء ويزهق الأرواح ويبيع أخرى في سوق النخاسة من أجل أهدافه الدنيئة، لا يعير اهتماما لمن تيتم أو ترمل أو قاسى العذابات بكل ألوانها حتى فقد الأمل وأيس من ما هو آت،.
وكم من سيمونة تظهر في كل جيل لتقو م بألا عيبها السوداء من أجل الحفاظ على ذلك الو هم الذي تجيش له الأرواح والمؤسسات والجن والإنس ، كأن التاريخ يعيد نفسه في كل فترة لكننا لا نحسن قر اءته فتنطلي علينا تلك اللعبة لنستمر في تلك الدوامة المحبوكة الصنع.
يعيدنا الكاتب عمر فضل الله إلى زمن مهم، ليس عبثا و إنما ليو حي لنا أن التاريخ مهم جدا في بناء أي حضارة مهما كانت، لذلك يجب معرفته بكل تفاصيله وحيثياته، بكل أطرافه الخفية والظاهرة، بكل اللاعبين فيه من أنس وجن، نساء ورجالا وجواري وغلمانا أحر ار ا كانوا أم عبيدا ، وأنه يجب البحث عن التاريخ الحقيقي الذي يحمل معه كل الأحداث والشخصيات وطبيعة النسيج المجتمعي الذي يعبر عنها حقا، وأن العبودية ليس بالظرورة رقا فإنها تتزين وتختلف باختلاف الأزمنة والعصور والحاجات والتطلعات فالتخطيط المستقبلي أو علم المستقبليات يجعلها في صدارة مهماته.
يعود بنا في الزمان والمكان ليختار مرحلة دقيقة من تاريخ الأمة مرحلة التأسيس الأولى والدعوة سرية والنبوءات منتظرة، و المكائد قابعة في دياجير المتربصين تحاك على حين غفلة من أهلها لكن سنة الله ماضية و صراع الحق والباطل سنة كو نية با قية.
ففي كل زمان ومكان تجد تلك الثنائية قائمة، الظلم. العدل، الحق والباطل، الشرو الخير، الموت والحياة الجمال والبشاعة، الإخلاص والنفاق الأنانية والإيثار.
ماتزال الطريق طويلة محاطة بالمخاطر والفخاخ، السائر فيها معرض لكل هذه الضروب، فدلمار مثال الخير والعدل والإخلاص عاش خادما لمبادئه مضحيا بالغالي والنفيس من أجلها، كاتما لأسرار الملكين، محافظا على بلده، ساعيا بكل ما يملك من حكمة وتجربة على استمرارها وبقائها، باذلا جهده أن تنتقل خبرته ومعرفته بدواليب القصر والحياة السياسية إلى حفيده، تلك الأمانة الثقيلة و ما يكتنفها من أسرار تحجم عن حملها الجبال، منها ما يستطيع مشاركته ومنها التي تبقى حبيسة صدره إلى الأبد يكابدها ويحفرها في سويداء قلبه
العدل و الخير والجمال سمات لأهل الحق، والظلم والشر والقبح صفات ملازمة لأ هل الباطل . مهما تغيرت الأزمنة والأمكنة ومهما تزينت أو تحورت وظهرت بغير حقيقتها فإنها في النهاية تكتشف وتصبح ملعونة ممقو تة، تلك الحقيقة أو ذلك السر القابع وراء المجهول حكاية التابوث الذي طالما نسجت عنه ع حكايات كثيرة وكيف تحميه سيمونة جيل بعد جيل بسحرها الأسود كما شفيرة دافينشي ، السر الذي تحتفظ به الكنيسة أو فرقة منها ليكون هدف حياتها واستمرارها كأنها موعودة به. قد تنطلي على الكثير فيكونو ا ضحيتها، وقد تبرز للقليل فيتعرض بسببها إلى القتل أو الأبعاد أو المساومة كما حصل لأبيلو الذي تحمل عشرين سنة بعيدا عن والده َوزوجه.وابنه الذي لم يره ، تحمل كل ثلك الأثقال من أن أجل أن ينقذ محبيه من جبروت الشر والظلم والقبح.
الصديق الصدوق المخلص مهم وقت الشدة يلعب دورا مهما سواء من الناحية النفسية فهو رافعة لا مثيل لها، تحمل عنك الأثقال التي تقسم ظهرك أن حاولت حملها وحدك كذلك كان الزبير لسيسيا.
النور يسطع حين يشتد الظلام يكو ن له سطوة ، يجلي الحقيقة و يكشف كل الأحابيل والألاعيب ، فرغم انتشار الظلام واستيلائه على كل مناحي الحياة ، فإن النور حينما يشع يتسرب إلى القلوب دون استإذان فهو مأمور .
ينتصر الحب والخير والجمال يموت دلمار على الحق هو وصاحبه و يجتمع ابيلي بتانيشا بعد طول غياب ومعاناة ينبثق الحب من شقوق البغض والشر فيسطع، يعود. سيسيا طفلا بريئا يجري في الطرقات منتشيا فقد غلب الحق الباطل، يمسك بيد محبوبه سنتاجا ويحدو حدو جده. وأبيه وأمه ليصطف مع الحق قائلا إن الباطل كان زهوقا.
جهد كبير بذله الدكتور عمر فضل الله في القراءة التاريخية لمملكة علوة وما دار في فلكها، فجاءت الرواية زاخرة بالمعلومات التاريخية المهمة تنقلك في رمشة عين إلى زمكان أخر بعيد لكنه يصوره بطريقة تجعلك تعيش كل لحظاته ، يجعلك تزور النيل والحارات وترى العنج العماليق، وتجارة الرقيق والاحتفالات، بلغة من عاش كل الأحداث وخبر كل الأماكن.
لغة ثرية تمتح من نفس البيئة وتجعلك تتعرف لأول مرة على كثير من الأشياء والأماكن والعادات والالبسة تجد فيها متعة الاستطلاع وحب المعرفة تجعلك تبحث عن معجم لتستعين به على المفردات الغربية والتي حاول الكاتب أن بذلل العديد منها في الهوامش.
أسلوب ماتع رائق لا تكلف فيه يأخذ بتلابيبك ينهرك وييتعجلك لإلتهام ما تبقى من أخبار وأسرار، في تشويق مثير .
عمل حري أن يكون من الأفلام الناجحة جدا إن وجد العين المتفحصة.
إدريس الزياتي
المغرب