اسم الرواية: رؤيا عائشة

المؤلف: د.عمر فضل الله

الصفحات: 194 ص

قراءة في الرواية:

قبل أن نبدأ:

مغامرة شيقة أخرى خضتها من روايات مبدعنا د. عمر فضل الله، رواية فتحت لنا نافذة كاشفة لزمان المهدي محمد أحمد وتحدثت عن حياته الخاصة بشيءٍ من التفصيل وهي حقائق تاريخية منها ما تم ذكره في التاريخ ومنها ما وصل إلى المؤلف بالتواتر نقلًا عن أبيه عن جده الذي شهد ذلك الزمان.. فإذا أردت أن تعرف الحقائق عن زمان المهدي آنذاك فهذه الرواية ستكون ضالتك بكل تأكيد

أعجبتني كيفية صياغة الرواية وتناسق جملها وكلماتها ولاحظت أن المؤلف في معظمها استخدم السجع المحبب للنفوس واللغة الشعرية التي أضفت طابعًا دينيًا لطيفًا للرواية.. الشيء الجميل بعد إكمالي لقراءة هذه الرواية في جلستين وجدت أنني تشبعت بالمعرفة والتاريخ عن ذلك الزمان.. ولأتأكد من معرفتي تحدثت عن زمان المهدي وعن المهدي لأحد الجيران في الحي وهو قد امتحن المساق الأدبي عكسي وكان وجوبًا عليه قراءة التاريخ بصورة عامة وعن المهدي بصورة خاصة في كتاب التاريخ.. فصرت أتحدث معه عما صار في ذلك الزمان فوجدت أنني من خلال الرواية أعرف ذلك التاريخ جيدًا وقد اختلفت معه أيضًا في بعض النقاط والتي هي حقائق ذكرت في الرواية ونقلت بالتواتر إلى المؤلف.. تناقشت مع جاري هذا رغم أنني لم أجلس لأدرس أو أحفظ شيئاً عن تاريخ المهدي ولم أكن أذكر أي شيء عنه منذ أيام دراستي الثانوية.. ولكن لدهشتي وجدتني متشبعًا بذلك التاريخ .. كيف لا وقد تخيلت هذه الرواية فكانت أمامي كمشهد سينمائي. ثم نحتت بعدها في عقلي..

 

القراءة :

بدأت الرواية بالتحدث عن حياة المهدي الخاصة وتحدثت عن نسائه ومن تزوج منهن بالإضافة إلى السريات اللاتي تسرى بهن.. فحدثت زوجه عائشة أنه تزوج من مختلف القبائل ليجمع شملهم.. ولديه كذلك الكثير من السِريَّات.. أخبرتنا الرواية عن حقيقة محمد أحمد الشهير بالمهدي فعكس ما يظن الناس اليوم فمحمد أحمد لم يطلب المهدية في بدايته ولم يكن يريدها. بل كان زاهدًا عن الدنيا.. وفي بداية طريقه للزهد انقطع عن العمل وترك صناعة المراكب وتفرغ للذكر والصلوات فكان مثل رهبان النصارى. وفي هذه المرة لجأ شقيقاه إلى زوجه فاطمة لتعينهما عليه، فبقيت تهجُرُه ليقبل نصحها ويسير طوع إرادتها.. فيعود لصناعة المراكب، لكِنَّه لم يكترث لذلك. وفي يوم وجدته يقرأ القرآن فانتزعت المصحف من يده وألقته على الأرض، وأمرته بالخروج إلى شاطيء النهر ليعمل، فطلقها وخرج غاضباً. وافتتح خلوةً لتعليم الغلمان القرآن الكريم، لكِنَّه لم يصبر على ذلك فتركه، وغادر إلى الجزيرة أبا وبقي يختلف إلى شيخه محمَّد شريف بالمرابيع القريبة من الجزيرة أبا. أما عن المهدية فهو لا يحب أن ينادى بها ولكن هنالك أسباب عميقة وخفية يجهلها أكثر الناس فمحمد أحمد لزهده عن الدنيا وتقشفه عنها ثم ما حدث بعدها من أمور تحدثت عنها الرواية تفصيلًا جعلت الناس ينسبون المهدية إليه وأنه هو المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلًا بعدما ملأت جورًا وظلمًا.. وأن المهدي رأى رؤيا منامية أو رآها يقظة كما يدعي بشرته بالمهدية وأنها هو المخلص.. وما أثبت له ذلك هو فساد الخرطوم في ذلك الزمان فكانت مرتعًا للفحش والرذيلة فارتكبت فيها كل أنواع المنكرات والشذوذ.. كانت سيئة سوءاً يكفي لأن يخسف الله بهم الأرض.. ففر منها فرار الطريدة من الأسد خوفًا من الفتنة وخوفًا على دينه.. وأبرزت الرواية أنه بعد قدوم عبدالله التعايشي من الغرب متشربًا بالمهدية. حاول خداع الزبير الباشا وكان نص ذلك: (فقال للزبير: أنت هو المنتظر! وأنا سأكون من أتباعك المخلصين لك. وسأله الزبير: كيف عرفت ومن الذي أخبرك؟ فقال التعايشي: عرفت ذلك بالإلهام والكشف والفيض الإلهي! وهو مكتوب في وجهك وعلى جبينك ولا يراه إلا أصحاب الكرامات. فعلم الزبير أن هذا الرجل كذاب كبير وأنَّه يزكي نفسه! وكان الزبير قد أمر بالقبض عليه لأنَّهم ضبطوه يكتب الحجبات والبخرات للنساء ويزعم أنَّها تجلب الولد وتمنع الحسد. الزبير حين سمع كلامه كذبه أمام الحاضرين في المجلس وقال لهم اقتلوه. لكن مستشاريه في ذلك المجلس لم يقروا قتله لمجرد القول وقالوا له هذا الرجل غرقان أي مجذوب ومصاب بمرض الذهول فصدقهم وأطلقه لكِنَّه قال له: لا تعد إليَّ مرة أخرى ولو رأيتك بعدها قتلتك. فتركه التعايشي وذهب يبحث عن المنتظر). فلما علم أن الخدعة لم تنطل على الزبير كررها مع محمد أحمد فصدقها خصوصًا وأن الناس أكثرهم يرون فيه المهدية

 

. تحدثت الرواية عن منظور آخر وهو منظور سوء الإدارة التركية على السودان فنجد أن الفساد والظلم والجور كان مسلطاً على السودانيين ففرضوا الضرائب الباهظة، وسلبوا الممتلكات، وحرقوا قرى بأكملها وحولوا الموانيء إلى ثكنات عسكرية، وبعدما قضوا على كل شيء تحولوا إلى نخاسين يبيعون الأطفال والنساء والرجال. ثم تولوا إدارة الجمارك، وجباية الضرائب التي شملت الأرض والبهائم والتجارة دون تقديم خدمات. وحين كسدت التجارة وانتشرت الأمراض في المنطقة وعانت البلاد من الفقر الشديد، وضرب الطاعون المنطقة، لم يكن لدى الأتراك أي نظام صحي لمساعدة السكان. وتركوا السودانيين ليلاقوا حتفهم. وقد سمحوا للأجانب بالتدخل في شؤون بلادنا تحت مظلة سياسة الامتيازات..

نجد أن المؤلف قد أدخل نقاشات دينية كثيرة تخللت بين شخوص الرواية.. فتحدث عن الشيوخ والطرق وذكر عن علماء السلطان الذي يفتون مقابل بضع دراهم معدودة .. وكيف باعوا دينهم ووطنهم بعرضٍ من الدنيا زائل.. ولكن المؤلف ركز في هذه الراوية على شخص محمد أحمد ودارت حوارات ونقاشات عن مهديته وعن الشيوخ الذي كذبوه وعن الشيوخ الذين صدقوه ودعموه بالأدلة.. وكذلك تحدثت الرواية عن أيامه الأخيرة حينما أعياه المرض وكانت زوجه عائشة تمارضه وقد نقلت ما كان يهذي به أثناء مرضه الذي كان مسببًا لوفاته.. فتقول زوجه إنها كانت تعتقد في معظم الأحايين أنه كان يتلكم مع شخص آخر لا تراه هي.. وكان حواره ذلك مع طيف على شكل أسئلة وأجوبة.. ثم ختم ذلك الفصل بالرؤيا التي رأتها زوجه عائشة.

تحدثت الرواية أيضًا عن حصار الخرطوم وتجمع الأنصار حول المهدي والملاحم البطولية التي سبقت أو التي كانت أثناء معركة تحرير الخرطوم.. وتحمس الدراويش للنصر أو الشهادة وقد كانت الخطة محكمة ونجد أن محمد أحمد التزم بقوانين الحرب فقال : – إذا فتح الله عليكم، فغردون لا تقـتلوه، و الشيخ حسين المجيدي لا تقـتلوه والفقيه الأمين الضرير لا تقـتلوه والشيخ الخراساني لا تقتلوه. ومن رمي سلاحه لا تقتلوه ومن أغلق عليه بيته لا تقتلوه. ونجد أن التعايشي في نفس الوقت كان يفسد هذا كله فأمر كتيبته بعكس ما أمر المهدي فحينما وصل الأنصار قصر غردون قتله أحد رجال عبدالله التعايشي وأفسد على المهدية خطته في مساومة المملكة البريطانية مقابل غردون.. وقيل إن المملكة هي من أمرت جواسيها بالتخلص منه وذلك لمصلحتها وكي لا يهتز كيانها.. دخل الأنصار الخرطوم بعدها وسفكوا فيها الدماء وانتهكوا شرف النساء.. قتلوا الرجال وحبسوا النساء في زرائب من الشوك كالبهائم كل ذلك دون علم المهدي.. أخيرًا وجدت أن للمهدي عدة شطحات إن صح التعبير بعد أن صدق بالمهدية أذكر منها إحدى نقاشاته مع الشيخ مضوي بن عبدالرحمن مفتي الأزهر:

(“الشيخ مضوي محدثًا المهدي : وبماذا أخبرك سيد الوجود؟ – لم يخبرني، وإنما أخبر من معي في المجلس، وأخذ عليهم العهد. فكان كلما جاء رجل ممن معي يأتي النَّبِي ويجلس معي ويقول للرجل شيخك هو المهدي، فيقول إني مؤمن بذلك، فيقول: من لم يصدق بمهديته كفر بالله ورسوله. قالها النَّبِي ثلاث مرات. وفي مرة أعلمني بأني المهدي المنتظر، وخلفني بالجلوس على كرسيه مراراً بحضرة الخلفاء والأقطاب، والخضر وجمع من الأولياء الميتين، وبعض من الفقراء، وقلدني سيفه، وأيدني بالملائكة العشرة الكرام، وأن يصحبني عزرائيل دائماً، ففي ساحة الحرب يكون أمام جيشي وفي غيره يكون ورائيا، وأن يصحبني الخضر دائماً، ويكون إمامنا سيد الوجود، وخلفاؤه الأربعة، والأقطاب الأربعة وستون ألف ولي من الأموات”)

أشير إلى أن الحكم التركي كما أوضح المؤلف لم يكن إلا سجادة داست عليها بريطانيا لحكم السودان وأبرز دليل على ذلك هو أن آخر حاكم عام تركي هو بريطاني الجنسية.

الرواية تحتاج إلى مقالات كثيرة للتحدث عنها وأظن أن هذا يكفي للاختصار ولكن الرواية تستحق ففيها حقائق ووقائع تاريخية لا توجد في كتب التاريخ لكن للأسف فالسودانيون لا يدونون التاريخ .. وهذه الحقائق كما قدمت وصلت للمؤلف عن طريق التواتر عن أبيه عن جده ثم إلينا من بوابة الرواية فإذا أردت معرفة المهدية جيدًا وهل المهدي هو فعلا مهدي أم مجرد متمهدي فالرواية ستكون ضالتك إن شاء الله..

أخيرًا كما ذكرت في قراءات سابقة أن مشروع روايات د.عمر فضل الله يجب أن يكون منهجًا دراسيًا.. فهذه الروايات تزيد من حبنا واعتزازنا بوطننا كما حدث لي وأتمنى أن يكمل مشروعه ثم ينال الانتشار والاهتمام اللازمين فتاريخنا هو أصلنا وهويتنا.. أشكر الدكتور على هذا الطبق الشهي والفائدة العظيمة التي استفدتها من الرواية التي لا يسعني هذه المرة أن أذكرها في بضع سطور فهي أكبر من أن أكتبها أقول كل هذا وأنا أحسب المؤلف ولا أزكيه والله المستعان.