بيني وبين المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب ودٌ قديم، منذ أن كنت طالباً بالسنة الأولى بكلية الاقتصاد جامعة الخرطوم، وكان هو مدير الجامعة،، ثم انقطع زمناً حين انقطعت عن الدراسة بالجامعة وهجرتها إلى جامعات الخليج ثم حين عدت للسودان كان رحمه الله كثيراً ما يزورني بمكتبي بمركز الدراسات الاستراتيجية لنتفاكر في أمر إنشاء المكتبة الوطنية وكنا نتذاكر عهوداً قديمة،، وكنت قد اقترحت على أولي الأمر تكريمه وقد حدث بالفعل حيث جرى تكريمه وتبني طباعة مؤلفاته عليه رحمة الله. سوف أذكر هنا بعضاً من عهود سلفت بيني وبينه رحمه الله حين كنت طالباً بالسنة الأولى بالجامعة.

تذاكرنا يوماً قصة سلامة والقس وأنشدته قوله في ذلك، وكان رحمه الله قد صاغ قصة سلامة مع القس شعرا جميلاً عفيفاً، وأصل القصة أن سلامة فتاة ذات جمال فائق كانت بمكة وكان هناك فتى زاهد عابد بمكة لا يراه الناس إلا وهو بين بيته والبيت الحرام، حتى أطلق الناس عليه اسم “القس” لكثرة نسكه، وكان طريقه إلى الحرم يمر ببيت سلامة فكانت تراه كل يوم غادياً إلى الحرم ورائحاً منه إلى بيته.. فافتتنت به ووقعت في حبه وكان جميلاً وسيماً زاده الزهد بهاء ونضارة، وكانت سلامة تتبعه حتى يدخل الحرم ولا تجرؤ على الكلام معه، لكنها ذات يوم تجرأت فقالت له يا هذا اعلم إني أحبك، وزادت دهشتها حين رد عليها بقوله وأنا أيضاً أحبك،! فتجاسرت وقالت له وأحب أن يكون بيني وبينك ما يكون بين المحبين، فقال لها وأنا أيضاً أحب هذا، فقالت ما الذي يمنعك إذن؟ فقال لها يمنعني قول الله عز وجل (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)، وأنا أخشى أن تحول هذه الخلة التي بيني وبينك في الدنيا عداوة يوم القيامة. ثم مضى في سبيله..

صاغ الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب رحمه الله هذه القصة الجميلة شعراً فقال يصف الحوار:

دنت منه برفق ثم قالت أحبك هل ترى في الحب ذاما
فقال لها معاذ الله قالت وأهوى منك ضماً والتزاما
فقال لها يمينا إن قلبي إليك اشد هيجاً واحتداما
فقالت ما الذي تخشاه قال الله أخشى ثم راما

ثم وصف حالتها بعد أن سمعت رد القس فقال:

لها لعس تخلج وهي ترخي على الخدين تستره ابتساما
تحبس فهو في الآماق جمر وفي الآفاق يلمحه غماما

وكنت حينها صبياً يافعاً فتطاولت على أستاذنا رحمه الله بقولي: يا دكتور ألا ترى أنك جعلت القس غليظاً مع سلامة في القول؟ ففطن رحمه الله إلى أن لكلامي ما بعده فقال لي وأنت لو كنت مكاني ما تقول؟ فقلت له سوف أضع نفسي موضع القس وارمز لسلامة بالفراشة فاقول:

من للفراشة في الهزيع الغافي رفت كما رف الأسى بشفافي
بيني وبين عيونها أسطورة بحر بلا قاع ودون ضفاف
بيني وبين شفاهها أنشودة سمقت على الكلمات والأوصاف
ويشع من خصلاتهاسحر وموسيقى وذوب قوافي
قالت أحبك كن جحيماً حارقاً وأنا الفراشة بالجحيم طوافي
وتململت شفة وشفة ريثما ينساب حرف راعش الأطراف
وانساب قول كالجمان كأنه ثمر تدلى مثقلاً لقطاف
أنا يا فتاة خلقت من طهر الضحى ومن النسيم كسيت ثوب عفاف

فابتسم ابتسامته المعهودة وقال لي: “يا بنى،، مثل هذه المواقف لا يصلح فيها إلا نحو قوله: قال الله أخشى ثم راما!!
رحمة الله على الأستاذ الدكتور كان جم الأدب شديد التواضع،،