أنفاس صليحة وتشريقة المغربي
العنوان أعلاه لروايات أستاذنا عمر أحمد فضل الله الفائزة بجائزة كتارا، وهي روايات تغوص في التاريخ السوداني بجوانبه المتعددة، السياسية والدينية والتاريخية والإجتماعية، تطرح رؤية عن تكون السودان، أو عن مراحل عبور محددة، لأحداث تشكل منها واقعنا الحالي، وتشكلت الأحداث هذه نتاج تفاعلات متعددة، تسهم هذه الروايات في طرح رؤية الكاتب لها، والتنبيه بالعوامل الأهم التي أسهمت في تكوين تاريخنا الحالي.
أنفاس صليحة تتحدث عن أحداث سقوط سوبا، بوصف سحري من الداخل، وفي الروايتين عامل مهم جداً، هو شخصية رجل مغربي أسهم بشكل ما في صنع الأحداث. لكن ما علاقة المغرب العربي بالأمر في السودان، هذا هو الجانب الأكثر إثارة في هذه الروايات، إنتباه الأديب عمر فضل الله لعامل غريب ومميز، الأثر المغربي في الأحداث السودانية، الأثر الممتد إلي الفكر والثقافة، المتمثل في شخصية رسمها بشكل خيالي متميز، أصبحت المتحدثة بإسم سوبا (صليحة)، الصوت الذي يروي التاريخ بحيادية، ينتمي إليه نسباً، وتصف الرواية بإسلوب خيالي بارع كيف أن الرجل المغربي قد إرتحل بروحه إلي السودان.
هذا الوصف ليس خيالاً البتة، هذا الوصف تاريخي بإمتياز، حدث حقيقة، مفتاح الأمر في أشياء كثيرة، فالرجل الذي يتحدث عنه عمر فضل الله هو الإمام العالم الشريف عبدالله الجزولي صاحب كتاب دلائل الخيرات، وهو أحد السبعة رجال، أصحاب الأضرحة الشهيرة داخل أسوار مدينة مراكش، والقصة التي تربط بلاد النوبة (السودان الحالي) به، هي أنه كان يختلي في منزله للتعبد، ثم يخرج إلي أتباعه، وتقول القصة أنه خرج ذات مرة فكان المتجمعين قرابة الثلاثة عشر ألف شخص، وعندما سأل عن أتباعه من أي البلاد جاءوا، لم تكن فيها بلاد السودان الحالية، فكان مهر إبنته خديجة الذي إشترطه أن يرحل بها زوجها ليقيم معها في السودان، وزوجها هو حمد بن سليمان من صعيد مصر، أو الشيخ أبودنانة كما نسميه الآن، ولديه ضريحان، أحدهم في سقادي جوار شندي وفي ود أبو صالح، أما الشريفة خديجة بنت الجزولي فضريحها في مقابر دنقلا القديمة، هذه القصة ليست في السودان فقط بل يقولها مشرف الضريح في مراكش.
الأنفاس التي قالها عمر فضل الله ربما قصد بها النفوس، وليست فقط الحكايا كما جاء ظاهرياً، وإسم صليحة الذي قال به، التي هي من نسل الرجل المغربي، صيغة التصغير ربما قصد بها أنها ليست هي الإبنة المباشرة للجزولي، فهي السيدة صالحة بنت حمد أبو دنانة، والدة الشريف إدريس ولد الأرباب، وأخذ نسبة الشرف عنها، تجد في طبقات ولد ضيف الله أنه قد ولد في الحليلة شوحطت، وهي قرية داخل غابة قديمة قطعت أشجارها لتبني مدينة الخرطوم بحري، وقرية الحليلة شوحطت هي داخل منطقة شمبات الآن، ولم يبق من معالمها القديمة سوي البئر الذي كان جوار منزل السيدة صالحة، البئر الذي له قصص عديدة ترتبط بمولد الشيخ إدريس، وبقي أيضاً قبرها من أضرحة المقبرة القديمة التي أصبحت الآن داخل السكن العمراني. وصالحة هو الأسم القديم، لكن يبدو أنه قد تحور محلياً ووصلنا سماعياً بصيغة صلحة، هكذا سمعناه من جداتنا وعماتنا، من فرع الغبش المختلط نسباً بآل الشيخ إدريس.
لكن لماذا قام عمر فضل الله بنسبة أثر ما للشريف الجزولي علي أحداث سقوط سوبا وتكون السودان بشكله الحديث، وكيف أن هجرة خديجة بنت الجزولي وزوجها حمد أبو دنانة، أسرة واحدة فقط للسودان، وتكون لها هذه الآثار الباقية الكبيرة، الإجابة ببساطة تجدها في نسخة تحقيق الأستاذ يوسف فضل للطبقات، وأن لهذه الزيجة سبعة بنات وإبن واحد، تزوجت كل بنت وأنجبت ولداً كان له شأن، منهم محمد ولد عيسي سوار الذهب، وعبدالله الأغبش، وعمر بن بلال جد العمراب، وإدريس ولد الأرباب، أما الحفيد المرتبط مباشرة بتاريخ سقوط سوبا والمتداخل في أحداثها فهو الشيخ عجيب ولد عبدالله جماع شيخ العبدلاب من بعد أبيه، وما زال أثر ذرية حمد أبو دنانة باقياً في الحياة السياسية والدينية والإجتماعية في السودان.
أسلوب الهجرة والإندماج في المجتمع هو أحد وسائل نشر الدعوة الإسلامية، إتخذته بلاد المغرب في تعاملها مع السودان، خاصة أنها كانت في معزل عن إتفاقية البقط الملزمة لدول لم تخضع لها المغرب تاريخياً، بل كانت معها في خلافات، ولم تكن هجرة خديجة بنت الجزولي هي الأقدم، ولم تكن الهجرة الوحيدة، تجد مثلاً منطقة الأزيرقاب في بحري الآن، تجدها تنتمي تاريخاً لجد قديم إسمه زروق قدم من بلاد المغرب، وزروق الإسم إشتهر به الشيخ زروق الفاسي، صاحب الإضافات علي الأذكار الشاذلية المعروفة، ربما هاجر للسودان هذا الرجل الذي سمي عليه ليكون معلماً ومفتياً، وأقام في منطقة الحاج يوسف الآن وضريحه في مقبرة البنداري، وأشارت الكتابات التاريخية أنه كان معاصراً للفترة المسيحية.
تجد أيضاً في الطبقات أن المجالس والأحداث فيها رجال من بلاد المغرب، التفصيل هنا لا يوضح أي بلاد المغرب الثلاثة، لكن واضح أنهم كانوا متواجدين ومتداخلين مع أهل السودان، ليس فقط للتعليم الديني بل في الزيجات وفي التعاملات المالية، وتجد أيضاً في تاريخ المغرب والأندلس من قبلها، إهتمام بزيارة الشيوخ لبلاد السودان الحالية، بل حتي بأخذ بعض من أفراد سكانها إلي بلادهم معهم، وفي ذكر علماء الأندلس عديد من جاء إلي بلاد السودان ليقوم بالتدريس ثم عاد بهدايا كثيرة، وهذا يظهر إهتمام أهل السودان بالعلماء وتقديرهم لهم منذ ذلك العهد القديم.
من أبرز زيارات علماء المغرب الموثقة في تاريخ السودان هي زيارة المقري التلمساني لمحمد ولد عيسي سوار الذهب، ويبدو أنها حدثت في حوالي 1650م، وكان في طريق حجه ثم هاجر منها إلي سوريا، والمقري جاء لإجازة محمد ولد عيسي في كتب العلم، بعد أن درس محلياً علي يد أولاد جابر، وبعد وفاتهم لم يكن في السودان شيخ مجاز من علماء الخارج، حتي تمت إجازته، وهذا من ذكاء الشيخ المقري بالتأكيد. والكلمة المستخدمة للإجازة العلمية هي “السلكة”، وكانت تلك المرة الأولي لإستخدامها، لكنها تحورت من بعد ذلك، وأخذت بعداً صوفياً في السودان، وأصبحت سلكه طريق القوم، كما يقول صاحب الطبقات، يخلط السلكة الفقهية بالسلكة الصوفية، أو أنهما بالنسبة له شئ واحد.
في أواخر سنار كانت هجرة شيوخ المغرب للسودان شئ متعارف عليه، تجد زيارة السنوسية وبعض أفراد الأسرة الإدريسية، عاد السنوسية وبقي الأدارسة، كما تجد من أهمها زيارة السيد أحمد التيجاني الذي جاء في سيرته أنه قد ساح في بلاد السودان، وكلمة ساح تعني أنه قد هاجر لنشر العلم والإنعزال للتصوف وتربية النفس، وبعد وفاته كانت وصيته أن يقوم أحد تلاميذه بالهجرة للسودان، فكانت هجرة الشريف محمد المختار التشيتي المشهورة، وكان أحد أبرز شباب علماء المغرب في عصره، هاجر للسودان في حوالي 1840م، وكانت بدايته بالمناظرة العلمية مع محمد الخير الغبشاوي، وتلاميذه كثر في السودان، منهم الإمام المهدي، ومحمد وقيع الله والد الشيخ البرعي وختم شرح خليل في كردفان، ونسله محمد المختار التشيتي في السودان وضريحه في القوز جوار شندي، كما هاجر للسودان بعض أحفاد مؤسس الطريقة التجانية.
هذه ليست رواية فقط، فما إنتبه له عمر فضل الله ودونه في كتاباته جدير بإعادة القراءة والبحث، وهو هنا يتجاوز مرحلة التنبيه بالحدث وإثباته إلي مرحلة تقصي وتدراس الأثر.