بقلم: د. خالد محمد فرح
Khaldoon90@hotmail.com

الدكتور عمر فضل الله أديب وقاص وباحث وكاتب سوداني مرموق ، له إسهامات متنوعة ورفيعة المستوى في شتى مجالات العلم والمعرفة والأدب والفكر والدراسات الاستراتيجية وتقنية المعلومات، وهو يعمل حالياً ومنذ عدة أعوام استشارياً كبيراً في مجال ” الحكومة الالكترونية ” بدولة الإمارات العربية المتحدة.
أما في مجال الرواية تحديداً ، فقد صدرت له من قبل رواية ” ترجمان الملك ” ، وهي عبارة عن معالجة روائية لقصة هجرة صحابة النبي (صلى الله عليه وسلم) في القرن السابع الميلادي إلى مدينة النجاشي التي هي ” سوبا ” حاضرة مملكة ” علوة ” ، فراراً بدينهم من بطش مشركي قريش وأذاهم ، كما اقتضت تلك الرواية ، وكذلك اتساقاً مع فرضية بذات المضمون قال بها من قبل بعض العلماء والأدباء السودانيين خاصةً ، كان على رأسهم العلامة الراحل بروفيسور عبد الله الطيب.
وكنت قد عرضتُ لهذه الرواية الأخيرة لهذا الكاتب ، في مقال لي بعنوان: ” قراءة في رواية ترجمان الملك للدكتور عمر فضل الله ” ، نشرته بالصحافتين الورقية والالكترونية معاً. فمن أراد الرجوع إليه فليقوقله ، فهو ثمة.

على أنَّ رواية ” أنفاس صُلَيْحة ” التي يصدرها الدكتور عمر فضل الله في بحر هذا العام 2017م ، تُعتبر هي الأخرى ، بمثابة معالجة روائية مماثلة لتاريخ وملابسات وآثار هجرة القبائل العربية إلى السودان ، وتزايد أعداد أفرادها وجماعاتها ، إلى الدرجة التي أغرتها في نهاية المطاف بتضييق الخناق على مملكة ” علوة ” المسيحية وإسقاطها ، وانتزاع الملك منها في القرن الخامس عشر الميلادي ، لكي تسطِّر بذلك صفحة جديدة في تاريخ البلاد ، مما غير وجهتها الحضارية ، وكرَّس فيها شخصية وطنية جديدة ، تجسدت فيها غلبة الثقافة والتوجهات العربية والإسلامية بصورة حاسمة ونهائية.

وبمثلما فعل الدكتور فضل الله في روايته السابقة ” ترجمان الملك ” ، فقد اتكأ هذا الكاتب بشدة على التراث في روايته هذه ” أنفاس صُليحة ” ، التي عمد فيها إلى المزج بين الخيال والواقع والتراث والتاريخ ، وربما ملامح من السيرة الذاتية ، إلى جانب الروايات الشفاهية ، وخصوصاً روايات النسّابة التقليديين في السودان ، لكي يُخرج لنا عملاً سردياً باذخاً ، قوامه لمع فسيفسائية الشكل من كل ذلك ، ولكنه – في ذات الوقت – يختلف عن كل ذلك ، لأنه في خاتمة المطاف ، عمل روائي وليس منجزاً بحثيا. ذلك بأن أداته الأولى هي التخييل ، وغايته القصوى هي التشويق والامتاع في المقام الأول.

ولما كانت الرواية كما يقول العتابي: ” هي حبكة وشخصية ووصف ، هذا في ظاهرها ، أما داخل ذلك فثمة آراء وأفكار ورسائل يحاول الكاتب أن يقول رأيه فهي حينئذٍ موقف من الحياة والواقع ” ، فإن بوسعنا أن نقول إن عمر فضل الله قد استوفى بعمله هذا ، الشروط والمقومات الفنية للعمل الروائي تماماً ، من حبكة ، وصراع ،وصناعة شخصيات ، وتصوير لها من حيث المظهر والمخبر والنوازع النفسية الخ ، وسرد للأحداث ، وعقد للحوارات الدرامية. ولكنه قد تجاوز ذلك لكي يلقي من خلال سرده الروائي الممتع والمشوِّق ، بعض الأضواء الكاشفة على طريقته ، على مرحلة مفصلية ومهمة للغاية من مراحل التطور التاريخي للسودان بأسره على الصعيدين السياسي والاجتماعي ، وخصوصاً منطقة الوسط التي شهدت قيام مملكتي العبدلاب والفونج على التوالي ، ثم قيام التحالف المشهور بينهما بعد ذلك.
هذا ، ولا شك في أن البعد الذاتي ، أو متعلقات السيرة الذاتية والخلفية الاجتماعية للمؤلف ، قد لعبت دوراً محوريا في صناعة هذا العمل الإبداعي للدكتور عمر فضل الله. فالمؤلف هو من بلدة ” العيلفون ” القريبة من ” سوبا ” عاصمة مملكة ” علوة ” التي انقض عليها العرب بقيادة ” عبد الله جماع القريناتي القاسمي ” الملقب ب ” عبد الله جماع ” ، فأسقطوها ، وخربوها خراباً صار مضرب مثل مشهور في السودان.
وقد ارتبطت منطقة العيلفون بشخصية الشيخ الصوفي الكبير ” إدريس بن محمد الأرباب ” 1507 – 1651م ورهطه من قبيلة ” المحَسْ “. والمحس الذين يقطنون بمنطقة ملتقى النيلين الأزرق والأبيض ، وإلى الجنوب منها قليلا والذين ينتمون إلى الخزرج كما يقال، قد عُرفوا منذ قدومهم إلى هذه المنطقة من ديارهم الأصلية بحوالي منطقة الشلال الثالث على النيل بشمال السودان منذ قرون ، بالعلم والصلاح والتدين عموما. وهم أقدم العناصر سكنى في منطقة الخرطوم الكبرى عموماً ، إلى جانب الجموعية ” العباسيين ” ، والزنارخة ” البكريين ” ، وبين الثلاث فئات تزاوج وتداخل وتجاور دائم.
ولكن محس هذه المنطقة ، كأنهم يستشعرون إحساساً خاصاً بأنهم هم الورثة الحقيقيين للتراث الثقافي لهذه المنطقة بصفة عامة ، ولعل السبب في ذلك انتشار الوعي و التعليم بينهم منذ وقت مبكر نسبيا. فعلى سبيل المثال نجد أن من أوائل من حرصوا على طباعة كتاب ” طبقات ود ضيف الله في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والفقهاء والشعراء في السودان ” ونشره ، كان هو القاضي ” إبراهيم صديق ” ، وهو من محس توتي ، وقد كان ذلك في عام 1930م. أما الرائد المسرحي الأستاذ ” خالد أبو الروس “، وهو من محس الخرطوم الكبرى أيضا ، فقد خلّف لنا أثرا أدبيا نادراً وشديد الارتباط بتاريخ هذه المنطقة وتراثها ، بل بذات الأحداث التي تدور حولها رواية عمر فضل الله نفسها ، ألا وهي مسرحيته الشهيرة ” خراب سوبا ” ، التي صرح خالد أبو الروس نفسه أنه أخذ قصتها كاملة عن عمة له.
ولئن كان خالد أبو الروس يسمي المرأة التي خربت سوبا ب ” عجوبة ” ، فإن عمر فضل الله يسميها الملكة ” دوانة ” أرملة آخر ملوك العنج في سوبا ، وتبرر الرواية سلوكها التخريبي ، برغبتها في الانتقام من بعض منسوبي البلاط الذين كانوا يكيدون لها ولزوجها.

أما ” صُليحة ” المذكورة في عنوان هذه الرواية ، فهي فتاة يتيمة والديها ، تنتمي إلى أسرة من الأشراف المغاربة الشناقيط. توفي والداها وهي صغيرة ، غب جائحة من وباء الطاعون ، اجتاحت قريتهم في بلاد السوس الأقصى بالمغرب ، فكفلها جدها وربّاها ، ووعدها بأن تسافر معه إلى الحج إلى الأراض المقدسة عبر بر السودان ، أي مملكة علوة. ولكنه اضطر إلى إخلاف وعده لحفيدته ، تحت إصرار ” الشيخ محمد ” الفقيه والمعلم بكتاب القرية ، بأن تبقى صليحة وديعة عنده بالكتّاب ، حتى تتعلم القرءان ، وكذلك خوفاً عليها من مشاق الرحلة الطويلة والمرهقة والمحفوفة بشتى صنوف المخاطر في ذلك الزمان.

ولكن صُليحة تهرب من ” الخلوة ” ، وتنخرط في مغامرة رهيبة كادت تفقدها حياتها في سبيل اللحاق بجدها الذي كانت تحبه حبا جما ملك عليها أقطار نفسها ، بل كان يمثل بالنسبة لها كل شيء في حياتها. فتتنكر في زي فتى ، وترافق قوافل التجار والحجاج العابرة للصحراء الكبرى ، وتكابد صنوفاً من الرهق والعذاب ، حتى تصل إلى سوبا ، فيسعدها الحظ بمقابلة جدها ، ويجتمع شملهما مرة أخرى. وهنالك في بلاد علوة ، يطيب لهما المقام ، فتتزوج سودانياً من أصل مغربي أندلسي أيضا ، وتصير هي نفسها جدة لراوي هذه الرواية ، بل جدة لجد جده في الحقيقة. ولما كان الراوية صبياً مغرماً ومفتونا تستهويه قصص الماضي ، فإن جدته البعيدة ” صُليحة ” هذه تحكي له ولنا على سبيل الاسترجاع أو ” الفلاش باك ” السينمائي ، سيرتها الذاتية منذ أن كانت طفلة في أرض المغرب ، وجميع ما اكتنف حياتها ، إلى أن وصلت إلى سوبا ، ولقائها الدرامي بجدها ، وزواجها بسوبا وإقامتها بها ، وما رافق ذلك من أحداث مهولة تمثلت في الصراعات و التحولات التاريخية والحضارية الكبيرة التي شهدها السودان آنئذٍ.

ولا شك في أن الاسم ” صُليحة ” الذي اختاره مؤلف هذه الرواية لكي يطلقه على بطلة هذه القصة ، له دلالته الخاصة ، خصوصاً بالنسبة لأهل العيلفون وغيرهم من محس الخرطوم الكبرى والصعيد عموما. ذلك بأنه يتناص مع اسم علم مشهور عندهم ، هو ” صُلحة ” التي هي ” فاطمة بنت الشريف حمد أبو دنانة ” ، ووالدة الولي الصالح المُعمَّر الشيخ ” إدريس ود الأرباب ” الذي مر ذكره من قبل. والشريف حمد أبو دنانة هذا كما تقول رواية شفهية شعبية واسعة الانتشار في السودان ، شريف مغربي كان صهراً للشيخ محمد بن سليمان الجزولي مؤلف كتاب ” دلائل الخيرات ” ، قدم إلى السودان في حوالي عام 1445م ، وأقام ببلدة ” سقادي ” بنواحي المحمية من ديار الجعليين ، وأنه كانت له سبع بنات ، تزوجن من رجال أعلام من أهل السودان ، وأنجبت كل واحدة منهن ولدا صار من بعد وليا مشهورا في السودان. على أن من الملاحظ والمدهش حقاً أن الشيخ محمد النور بن ضيف الله لم يذكر اسم الشيخ أبي دنانة هذا ، ولم يشر إلى هذه الواقعة في كتابه الشهير ” الطبقات ” ، على الرغم من أنه قد ترجم لجميع الشيوخ الذين تزعم تلك الرواية نفسها أنهم أبناء خالات ، كما أن الأستاذ الباحث الطيب محمد الطيب ، قد أنكر صحة هذه الرواية في كتابه ” المسيد “. والله أعلم أي ذلك كان.

وبالفعل ، فإن سياق السرد يقتضي أن تلتقي ” صُليحة ” بطلة الرواية بعائشة ابنة الشريف حمد أبي دنانة ، وزوجة الشيخ ” عبد الله جماع ” ووالدة ابنه الشهير ” الشيخ عجيب المانجلك ” ، فتذكر لها عائشة المذكورة ، أن شقيقتها هي نفسها تُسمى ” صليحة “. وتخبرها أيضاً بأنهم من الأندلس أصلاً ، رغم أنها تؤكد لها أن ” الشريف حمد أبو دنانة ” محسي القبيلة ، وهذا ما تختلف فيه الرواية عن أكثر روايات النسابة والإخباريين التقليديين شيوعا ، والقائلة بأنَّ الشريف حمد ، هو شريف مغربي فحسب.

ومهما يكن من أمر ، فهاهو الدكتور عمر فضل الله يخرج لنا مرة أخرى ، رواية دسمة مفعمة بالفن والمتعة والتشويق ، علاوة على أن فيها كدا ذهنياً ، وجهدا بحثياً ملحوظا ، وتنقيباً في المصادر والمراجع ذات الصلة في مجالات تحركات وأماكن انتشار واستقرار القبائل العربية والسودانية ، وحركة القوافل والهجرات والتحركات السكانية عبر الصحراء الكبرى ومن وإلى بلاد الشمال الإفريقي ، فضلاً عن مجالات التاريخ السوداني والإفريقي الوسيط ، واللغات واللهجات وهلم جرا.
فنراه على سبيل المثال ، وهو يورد لنا في متن الرواية ، أمثلة طريفة من اللهجة المغربية بما في ذلك نماذج مما تنطوي عليه من ألفاظ ذات أصول طارقية وأمازيغية ، وذلك في أكثر من مناسبة متى ما اقتضى السرد والحوارات الدرامية ذلك. وذلك من قبيل قوله: ” ترفاطت ” وهو وعاء جلدي يوضع فيه الصوف والوبر ، إلى جانب بعض مصطلحات الشعر والغناء الحساني الموريتاني مثل: ” اطلَعْ ” و ” الكِيفان ” و التَّبْراع ” الخ. مما يؤهل الرواية لآن تكون سائغة وحرية بالرواج بكل تأكيد ، في سائر بلاد المغرب العربي الكبير.
أما الحيز الزماني ، أو السياق التاريخي الذي تتم فيه أحداث الرواية ، فيتطابق مع تلك الفترة التي تُعتبر بين سائر المؤرخين ، فترة مظلمة في تاريخ السودان بسبب شح المصادر التي تؤرخ لها أو انعدامها بالكلية. ألا وهي الفترة ما بين سقوط مملكة المقرة النوبية المسيحية بشمال السودان في القرن الرابع عشر ، وسقوط مملكة علوة في خواتيم القرن الخامس عشر إلى مطلع القرن السادس عشر الميلادي. ولذلك فإن الرواية تشي بالحالة السياسية والاجتماعية والدينية والعقلية السائدة آنئذ ، كما وتصور أجواء الصراعات والدسائس والمؤامرات داخل بلاط مملكة علوة التي ساعدت على انهيارها ، علاوة – بالطبع – على الضغط والحصار الحربي الرهيب الذي فرضته القبائل العربية عليها.
وتنم الرواية كذلك – استقاء من مرجعياتها المعرفية بكل تأكيد – عن طبيعة التركيبة السكانية لمنطقة ” شرق النيل ” بمنطقة الخرطوم الكبرى في تلك الحقبة ، حيث يكثر فيها ذكر العنج ، والنوبة ، والمحس ، والعبدلاب ، والفونج ، وجهينة ، والمغاربة ، مثل الشيخ ” حسوبة ود عبد الله ” في سوبا ، وكذلك الشيخ ” لُقاني ” وهو اسم جد البطلة ” صليحة ” الذي يذكرنا بدوره وبقوة ، باسم الحاج ” لقاني ” خال الشيخ حسن ود حسونة الذي قدم جده إلى أرض السودان من الجزيرة الخضراء من جزائر الأندلس كما جاء في سيرته بالطبقات.
وبالجملة فإن هذه الرواية تسوقنا حقيقةً ، في سياحة معرفية ووجدانية في غاية الامتاع والتشويق في دهاليز تاريخنا السياسي والاجتماعي الوسيط ، عبر معالجة روائية وفنية مبهرة ، مما يجعلها قمينة حقاً بالاطلاع.

المصدر:
http://www.sudanile.com/index.php?option=com_content&view=article&id=97615