الكاتب الروائي السوداني الأستاذ أسامة شيخ إدريس عن أعمال عمر فضل الله:

الدكتور عمر فضل الله من الأسماء التي نفخر بها كثيراً في السودان وأفخر بها أنا شخصياً لمعرفتي الوثيقة به والعلاقة بيني وبين أسرة الدكتور عمر فضل الله.

الأعمال التي قدمها الدكتور عمر كثيرة ومتنوعة لكن السمة التي تجمع بينها جميعها هي الرواية المعرفية التوثيقية ولا أدري هل الرواية تعتبر نوعاً من أنواع التوثيق فالرواية ليست مجرد توثيق فقط فقد تكون حاضراً وقد تكون مستقبلاً أيضاً. لكن إذا أخذنا قيمة روايات الدكتور عمر المعرفية كتوثيق لتاريخ السودان فقد نظلم تجربة دكتور عمر لأنه لم يتناول التاريخ فقط فقد كتب وأنا أتكلم عن تجربته الروائية عموماً فهو لم يكتب في الرواية فقط وإنما كتب كذلك في الفكر وكتب في الأنساب وكتب في الشعر أيضاً وكتب في المقال. فالتجربة الثرة للدكتور عمر جعلت من الصعب جداً أن نتناول تجربته الروائية بالإيجاز لكن إذا حصرنا الأمر في التجربة الروائية المعرفية لدى الدكتور نجد أن كتابة التاريخ في السودان عموماً ليست كبيرة فكتاب الرواية يتحاشون تناول الرواية التاريخية فهي قد تدخلك في مأزق كبير لأن معظم التاريخ في السودان بلا مراجع وقد حاولت أنا أيضاً كتابة الرواية التاريخية لكن المراجع كانت غير متوفرة وكذلك معظم الروائيين السودانيين حين محاولة الكتابة عن الرواية التاريخية تواجههم هذه المشكلة فهم يأخذون التاريخ عن المستشرقين لكن هناك تاريخ محفوظ في صدور الناس فهل سينجو بعضهم من الوقوع في المأزق الشفاهي ويلتزم الحياد عند كتابة التاريخ الشفاهي أم ستتدخل بعض النعرات ولذا فكتابة الرواية التاريخية صعبة جداً وقد تدخل القاريء أيضاً في مأزق. لذا لا يكتبها إلا المتبحرون في الكتابة مثل الدكتور عمر فضل الله.

إذا حصرنا أنفسنا في كتابات الدكتور عمر المعرفية وإن كانت كلها في قيمتها الكبيرة كونها روايات كتابية معرفية نجد أن هنالك رابطاً كبيراً بين كل الأعمال التي أنتجها. فمن ملاحظاتي أن التسلسل الذي بدأ به الدكتور إذا بدأنا بأطياف الكون الآخر – ما قبل التكوين الإنساني تقريبا – وقبل نزول الجن إلى الأرض، وترجمان الملك التي تحكي فترة المسيحية ودخول الإسلام للسودان ثم تأتي رواية أنفاس صليحة التي تحكي عصر دولة الفونج وتحالف دولة الفونج مع القواسمة العبدلاب ثم تشريقة المغربي في عصر الدولة السنارية ثم في انتظار القطار في عهد الدولة التركية ثم نيلوفوبيا التي تعرضت لغرق الباخرة العاشر من رمضان في بحيرة النوبة بين مصر والسودان في حقبة ثمانينيات القرن الماضي وقبل ذلك رؤيا عائشة في عصر المهدية ثم آدم أسود وحواء بيضاء أيام غزو الإنجليز للسودان ففي كل مرة يريد الدكتور عمر أن يبعث برسالة تكاد تكون موحدة: (أيها السودانيون ابحثوا في تاريخكم). أنا أخص السودانيين بالرسالة والدعوة للبحث في التاريخ لأن الرواية للبحث في التاريخ هذا وقتها فهي مطلوبة بشدة. والرواية المعرفية مطلوبة بشدة في السودان في ظل هذا الانفجار الكبير الحاصل في الرواية السودانية بكل أجناسها.

نجد أن دكتور عمر فضل الله بالإضافة إلى الرواية المعرفية قد اتبع الأجناس المتعارف عليها في طريقة السرد والحكي فقد استخدم الواقعية واستخدم الفلاش باك كتقنية وعرف كيف يوظف الموروث الشعبي والغرائبية والتراث والتاريخ من أجل أن تكون أعماله الروائية مقروءة وتكون عندها قابلية وقد نجح في هذا نجاحاً منقطع النظير.

هذا الإقبال الكبير على أعمال الدكتور عمر فضل الله الأدبية بالإضافة إلى متعة السرد ومتعة الحكي – والدكتور عمر حكاء من الطراز الأول – فهذا الحكي المرتبط برسالة موظفة توظيفاً صحيحاً جعل تجربته تأخذ لوناً مختلفاً عن بقية الكتاب السودانيين وقد نجح فيها نجاحاً كبيراً وأحدث بصمته فإذا أردنا أن نتحدث عن كتاب الرواية المعرفية في السودان فسوف يأتي دكتور عمر في المرتبة الأولى بلا تحيز وفي كتابة التاريخ. وقد لا يستسيغ البعض هذه التصنيفات: من هو الأول ومن هو الثاني لكن للدكتور عمر قصب السبق فقد وضع للتوثيق المعرفي طريقة سرد أوجدت لدينا كثيراً من التحفظات على التاريخ المدون المكتوب قبله والتاريخ الذي يتم تدريسه الآن فسرد التاريخ بصفة عامة تدخل فيه إشكالات كثيرة وعناصر متنوعة لكن دكتور عمر جعل هذا ممكناً فقد أفلح في أن يكون الإطلاع المعرفي التاريخي التوثيقي للسودان ممكناً ولا تجد في أعماله فواصلاً فكل رواية تأخذك إلى الأخرى وبالتالي ينقلك لحالة بحث معرفي وقراءة مستمرة ولذلك تجد المتعة وباختصار أقول إن الدكتور عمر فضل الله استطاع أن يرجع بنا إلى الذاكرة البعيدة جداً في تاريخنا وأنا أشعر أن التحضير للروايات التي كتبها الدكتور عمر بدأت منذ طفولته فهذه المناطق التي كتب عنها سبق أن عاش فيها ففي أنفاس صليحة عاش دكتور عمر في منطقة سوبا وهي ذات المنطقة التي ولد ونشأ فيها فسوبا والعيلفون بينهما بضعة كيلومترات قليلة فكأنما كان يحضر لهذه الروايات منذ أن كان صغيراً فيستحضر هذا التاريخ البعيد واستطاع أن يتغلغل داخل أعماقه ويكتب لنا بهذا الجمال وهذه الاحترافية الكبيرة فكأنما كانت حياته كلها عبارة عن بحث في التاريخ وكيف يوصل لنا هذا التاريخ الجميل للسودان بأسلوب سردي ممتع جداً