(أنا من أوائل الذين قرأوا الرواية قبل أن تطبع. الاسم رائع جداً أعجبني الاسم: أنفاس صليحة، يُخَلِّدْ الرواية. لأن اختيار الأسماء دائماً يجعل الناس تحفظها حتى ولو لم تقرأ الرواية. (أنفاس) معناه أن هناك شيئاً يخرج من صليحة مثل التداعيات. وفعلاً حينما تقرأ الرواية تشعر بأن هذه هي أنفاس صليحة. إذن فالإسم معبر جداً ومتناغم ومتماهي مع أحداث الرواية ومافي شك تشدك الرواية من أول مرة.
الرواية استخدمت – كما قال أساتذتنا – عنصر التخييل لنقل التاريخ لأني لا أبحث في أن صليحة شخصية حقيقية أو غير حقيقية فهذا لا يهمني أبداً. وحتى لو كانت شخصية حقيقية فكل ما يجري في الرواية هو تخييل فملكة الخيال عند الكاتب كبيرة جداً.
والتاريخ كما قال الأساتذة يخص فترة دولة علوة وخراب عاصمتها سوبا لكن لم يكن هذا هو الموضوع الأساسي في الرواية وإنما هي رمزية مفتوحة الدلالة. صحيح أن دولة علوة وسوبا كمادة خام تاريخية استخدمت كثيراً ولكنها مازالت مفتوحة للتخييل والتداعيات. وكانت هناك محاولات للحسن البكري في استخدام تاريخ سوبا ودولة الفونج غير أن الواقعية السحرية كانت طاغية فيها فلم يستوعبها كثير من الناس إلا الصفوة منهم.
أعتقد أن (أنفاس صليحة) محاولة من الكاتب لتأكيد هوية الوسط السوداني بأنها ليست حكراً على قبيلة معينة وإنما هي تكوين من خليط من حضارات قديمة أنتجت هذا الوسط السوداني. لأن سوبا جغرافياً تمثل هذه الوسطية الجغرافية والثقافية في السودان والجذور الضاربة في القدم بل تؤرخ لحضارة قديمة وفيه تأكيد لعراقتها فلو أن عاصمة استمرت 600 سنة فمعناه أن هذه حضارة عريقة جداً. بمعنى أن فيها التسامح الديني وفيها الاستقرار ثم جاء بعد ذلك الدمار والخراب إذن النص مفتوح الدلالة والسؤال من الذي خرب سوبا إذا كانت بكل هذا الاستقرار وهذه الحضارة القائمة فإن خرابها يكون إدانة لمن خربها. وبمعنى أن هذا الامتداد الحضاري وهذه الهجنة عند الوسط تمتد من المغرب الأقصى إلى منطقة سوبا بمعنى ان هذه المنطقة كانت شيئاً واحداً وأرضاً مفتوحة والاستقرار أيضاً مفتوح والزواج أيضاً متاح ومفتوح. من قوافل الحج القديمة من تيمبوكتو إلى مكة الناس كانوا يتخلفون ويبقون. والغريب دائماً الناس يتخلفون في السودان! بمعنى أنه بلد تسامح منذ القدم تمر به هذه القوافل.
ما استشففته من هذه الرواية أن الرواية أفلحت في تأكيد ذلك دون أن يحدث ذلك تقريرياً فالكاتب لم يفرض أي نوع من الوصاية أو نصر قبيلة على قبيلة أو حضارة على حضارة لكن ذكاء الكتابة يأتي هنا في أن الحدث يقنعك، فإما أن تخالفه في منطقه بمنطقك أنت دون تبخيس لمنطقه وإما أن يقنعك بمنطقه أيضاً.
كيف تغامر فتاة من المغرب بهذه السن وهي شابة غريرة من أجل أن تلحق بجدها فالراوي أوجد بداخلها كماً كبيراً من المعرفة بجدها وهو ما دفعها لأن تلحق بذلك الجد.
هذه المغامرة من صليحة سبقتها مغامرة كتابة. لأن أعظم الروايات ليست كتابة المغامرة وإنما هي (مغامرة كتابية) بمعنى أنه غامر بأن يكتب رحلتها فالدكتور عمر غامر مغامرة كبيرة جداً بأن يكتب رحلتها حتى وصلت إلى سوبا من أقصى بلاد الشنقيط وهذه مغامرة كبيرة جداً.
تتمثل هذه المغامرة في الآتي:
– أن الكاتب وقع في امتحان معرفة المكان وثقافته ودروبه ولغته ولهجاته وطريقة معيشته وقبائله قبل أن تتحرك صليحة واجتاز هذا الامتحان بنجاح.
وقد انتقل بالقاريء إلى المكان بجغرافيته المميزة وبزمانه التاريخي الذي جعلنا نحسه ونحس بأننا نعيش مع صليحة في المكان وقبل أن تغادره ونحس بزمانه أيضاً لأنه زمان مختلف جداً فالنجاح هنا في هذه المغامرة الكتابية زماني ومكاني.
– والمغامرة الأخرى التي دخل فيها الكاتب هي مغامرة اللغة لأن امتحانها كبير. وهناك من الكتاب وخاصة كتاب الرواية من يملك الخيال ولا يملك اللغة وهناك من يملك اللغة ولا يملك الخيال ولكنه وازن بين الاثنين فالكتاب العظام دائماً هم الذين يملكون الخيال واللغة معاً.
– ثم ترابط الحدث فالحدث مترابط جداً لم يفلت خيط السرد أبداً من يد الكاتب، وكانت اللغة هي الوعاء الجيد للمكان بثقافته فكان يأتي باللهجة المغربية في وقتها بقدرة كبيرة أعجبتني جداً رغم أن معرفتي بها متواضعة ولكني فهمت ما يقصده، ولو لم يذكر هذه اللهجة المغربية لاختلَّت الرواية.
– لقد كانت الرواية رائعة أيضاً متوالية في وصفها وهي تتحرك مع صليحة محطة محطة حتى تصل إلى سوبا بمعنى لغة وصفية محسوسة ومجردة معاً فلم تكن وصفاً إنشائياً مدرسياً وإنما هي وصف يورد الإحساس بالوقت فكانت اللغة في كل مكان تلبس لبوسه الخاصة، ففي الصحراء يورد ألفاظ الصحراء ووصفها الرومانسي، في المدينة، في الوهاد، في الجبال حتى تجعلك تقبض أنفاسك وأنت تتابع رحلة صليحة وتتعاطف معها وتخاف عليها مع أنك تعلم مسبقاً أن صليحة موجودة الآن في سوبا وهذه هي عظمة الرواية. فعندما تحكي لك صليحة أنت كقاريء تعرف أنها وصلت سوبا لكن كيف وصلت سوبا وكيف أوصلها الكاتب؟ كان هذا هو الامتحان الثالث الذي نجح فيه الكاتب أيضاً.
هنا مقطع يقول: (كل خطوة تخطوها الجمال في هذه الصحراء تزيد معرفتك بها. هذه الصحراء متقلبة المزاج والأحوال ففي حين تكون صحراء لطيفة تتدثر بالرمل الناعم وتتلوى وهادها وكثبانها طيعة تحت أخفاف الإبل في أحيان أخرى تقسو بترابها ونباتها وتصفر الريح غاضبة قبل أن تهب العواصف مزمجرة تنفث الرمال على وجوهكم وتحثو التراب فوق رءوسكم…)
هذا وصف رائع جداً للصحراء لم يكتبه كثير من الناس إلا الذين عاشوا في الصحراء مما يؤكد كلامي بأن الرواية صارت معرفة وليست كتابة فقط. يجب أن تعرف جيداً المكان الذي تكتب فيه.
– اللغة راسخة جداً ومتتبعة لمسار صليحة جعلت الراوي نفسه دليلاً وخبيراً بالمكان، وهذا يمثل خبرة الكاتب وبحثه قبل الكتابة لأن الرواية هي بمثابة بحوث أيضاً، زيادة على الموهبة والخيال وجماليات اللغة وثقافة المكان الذي تتحرك فيه الشخصية والزمان الذي تعيش فيه وأعتقد بأنها معرفة (زمكانية) كما يقول النقاد. وأعتقد أن الكاتب اجتاز امتحان اللغة بمقدرة هائلة.
– ثم يأتي بعد ذلك التكنيك الفني في البناء الروائي فقد كان رائعاً جداً حيث أن الراوي هو راوٍ عليم، يعرف كل شيء يدور في المكان والزمان لكنه يسلم السرد لصليحة بدون أن تقول أنا لأنها صغيرة في السن لا تستطيع أن تخلق تيارا من الوعي (Stream of Consious) ولكن كان هذا ذكاء الكتابة والامتحان الخامس الذي نجح فيه المؤلف.
شكراً جزيلاً)

الدكتور عز الدين ميرغني
في حفل إطلاق رواية أنفاس صليحة – دار مدارات لللنشر ، قاعة الشارقة الخرطوم
الأحد 10 سبتمبر 2017