الروائي العالمي د. عمر فضل الله
رواية آدم أسود وحواء بيضاء
الصادرة عن دار البشير للثقافة والعلوم عام 2021
لأول وهلة حين تبدأ في قراءة الرواية، ترى كأن الكاتب يحكي لك قصةً تدور أحداثُها على ضفاف نهر التايمز في لندن، فقد وصف لنا حالة أهلها بدقة وتفصيل، كأنه عايشها ورآها رأي عين، وصف لنا ببراعة متناهية حالة البؤس التي كان عليها الناس فلا يجدون بُدًا من خيار الانتحار عبر القذف بأنفسهم من فوق الكوبري ليلقَوْا حتفهم غرقا في أمواج النهر المتلاطمة، حين لا يجدون طعاما ولا مأوى، حيث كان المأوى يُستأجر يوما بيوم، ويظل البؤساء من الناس يبحثون يوميا عن مأوى، أو قطعة خبز يخطفونها من يد أحد الأطفال، حتى إنه من كثرة حالات الانتحار تشكلت عصابات لتجريد جثث الضحايا من الملابس والمقتنيات لعلهم يجدون في ثمنها ما قد يعينهم على مواصلة الحياة البائسة بأي ثمن، ودون أي اكتراث من السلطات، فقد بات هذا الأمر عاديا لا يؤبه له، وتشكلت أيضا عصابات للسطو على الأغنياء، ويضطرون إلى ممارسة الرذيلة قسرا أو رضًا للتمكن من الاستمرار على قيد الحياة.
ومن تلك الحال البائسة يأتي مولينو (وهو المعادل الموضوعي لإدارة التسلط على الشعوب المقهورة) فيجند الرجال والفتيات في الجيش الإنجليزي، فيفرح بذلك أولئك البؤساء هربا مما هم فيه من فقر مدقع، وحياة مآلها في معظم الأحيان إلى الانتحار.
ثم ينتقل بنا الكاتب إلى رحلة هؤلاء إلى بلاد السودان وغزوها بحجة الانتقام لمقتل قائدهم غوردون، فيمعنون في القتل والتدمير والاغتصاب والسبي ونهب الثروات.
عند هذا الفصل عاودني فهم مشروع عمر فضل الله الطموح وهو (الرواية المعرفية) _ وعلى خلاف ظني _ وجدته يروي لنا حقبة من تاريخ المنطقة، بتفاصيله الدقيقة وتواريخه وقادته وأسمائهم وأماكنهم وأسلحتهم، الذين جهزتهم بريطانيا لغزو والقضاء على دولة الدراويش في السودان، (قائد الحملة هربرت كتشنر، والرائد ويليامز، المدافع الخفيفة، وبطاريات الميدان، ومدافع الهاوتزر، اللواء واشوب، والجراح العام تايلور، والميجور ويلسون، والزوارق البخارية والشراعية والبواخر والصنادل الحديدية، وثمانية آلاف جندي بريطاني وخمسة عشر ألف جندي مصري وسوداني، وعشرة آلاف جندي استرالي.
تقول هيلين “الراوي العليم” في هذه الرواية: ترى ماذا نريد نحن البريطانيون من هذا البلد، معقول كل هذا الجيش للانتقام لمقتل رجل واحد؟ أم ما الذي نريده حقا من هذه الشعوب؟
ويواصل كاتبنا الكبير عرض المأساة وما تعرض له السودان على يد الغزاة على لسان هيلين وأخيها هيليوس الذي قضى في هذه الحرب الظالمة التي قتل فيها عشرات الألاف من السودانيين بأيدي الغزاة ومن كان في صفهم من المصريين والسودانيين وحلفاء بريطانيا، وكيف كان ينزل ضباطهم إلى أرض المعركة للإجهاز رميا بالرصاص علي من يجدونه مازال على قيد الحياة.
أما تفاصيل المأساة فأترك للقارئ الكريم التوغل في أحداثها من خلال قراءة الرواية، حتى لا أسلبه دهشة الاستمتاع بالإبداع القصصي لكاتبنا الكبير.
ظللت طوال قراءتي للرواية أسائل نفسي: ما علاقة أحداث الرواية بعنوانها (آدم أسود وحواء بيضاء) فإذا بي في فصلها الأخير أجد كاتبنا الكبير قد ربط بعبقرية فذة في حوار محكم بين هيلين ومريم إحدى النساء السودانيات فأعادك إلى السطور الأولى من بداية الرواية بطريقة ساحرة فتجد أن لسان حالك يقول عليَّ أن أبدأ قراءة الرواية من جديد.
تقول هيلين: لابد أن هناك سرا إلهيا يميزنا نحن البيض وراء تباين ألوان البشر، لم نفهم كنهه بعد حين اعتقدنا أن بشرتنا البيضاء تميزنا وتمنحنا الوصاية على بقية الألوان.
تقول مريم التي قتل ابنها في هذا الغزو: وأن السواد لا يزري بصاحبة إذ ليس له يد فيه وليس له حق اختياره، وتقول: حين يسألوني من طبب جرحك أقول لهم من قتل ابني هو الذي عالج جرحي؟ لا يستقيم.
لذا فإنك ترى غلاف الرواية قد عبر عنها تعبيرا دقيقا.
وأترك للقارئ الكريم ليقف بنفسه على التقنية الروائية البديعة التي ربط بها كاتبنا نهاية الرواية ببدايتها لتجد عتبة النص واضحة جلية. وأوصي كل محب للأدب الراقي باقتناء هذه الرواية.