رؤيا عائشة أم شهادة على عصر
قراءة في رواية الدكتور عمر فضل الله
بقلم: وداد معروف
رواية “رؤيا عائشة ” للروائي الكبير د. عمر فضل الله, صدرت هذا العام عن دار البشير للطبع والنشر، تقع الرواية في 192 صفحة, مقسمة إلى 13 فصل.
أهداها إليّ د/عمر فضل الله، في حفل توقيعها في معرض الكتاب 2020م, لكني قرأتها في هذه الأيام، أيام عزلة كورونا, باعد الله بيننا وبينها.
تبدأ الرواية بإهداء من الكاتب فيقول ” إلى أجدادي وآبائي الذين مضوا إلى الله, بعد أن تركوا من خلفهم وطنا يسع الجميع, وأجيالا طموحة تسعي لإعماره ……” هذا جزء من الإهداء
الدكتور عمر فضل الله اهتم بالرواية التاريخية المعرفية, فقد قرأت له من قبل روايته (أنفاس صليحة)، الحائزة على جائزة كتارا, ورواية (ترجمان الملك) و( تشريقة المغربي ) الحاصلة على جائزة الطيب صالح, وكل هذه الروايات هي من نوع الرواية التاريخية المعرفية.
والرواية التاريخية التي بدأها في الغرب والتر سكون الاسكتلندي بروايته ويفرلي 1814, بعدها ألف 55 رواية تاريخية, كان أساسها الصدق والحبكات الفجائية, وقد أدخل العنصر الفني والمنهج الأدبي في عرض أحداث التاريخ وأبطاله.
في الأدب العربي يعتبر النقاد والباحثون جورجي زيدان هو الأب الفعلي للرواية التاريخية العربية, فقد ألف 23 رواية منذ روايته الأولى (المملوك الشارد ) وإن كان النقاد عدوا رواياته من الروايات التعليمية, تطورت الرواية التاريخية علي أيدي كثير من الأدباء, وفي مرحلتنا تلك أبدع فيها أيضا واسيني الأعرج في روايته ( مسالك أبواب الحديد ) عام 2005 التي اختار لها الشخصية الجزائرية الرمز “عبد القادر الجزائري”, الذي قاوم الاستعمار وآمن بالتفاوض.
وتعد الرواية التاريخية أسلوبا للبحث عن الذات القومية المنتصرة ومحاولة لإسقاط الماضي على الحاضر, هي محاولة لالتقاط ما هو جوهري وجدلي في علاقة الإنسان بالتاريخ, وروايتنا هذه من الروايات المعرفية التي يعد السرد فيها إبحارا مفتوحا للكشف والاكتشاف, والمعرفة في الرواية هي الرسالة الخفية, ويعد تضمين الأدب نصوصا فلسفية وصوفية ورؤى كونية ذات تطلعات سامية هو إنتاج للمعرفة, مما يسهل وصول المعرفة إلى القارئ, باستدعاء شخصيات تاريخية لها رمزيتها المعرفية.
كانت هذه المقدمة هامة للتوطئة للحديث عن رواية الأديب الدكتور/ عمر فضل الله ( رؤيا عائشة ) فبطلها هو أحمد محمد المهدي, قائد الثورة المهدية في السودان الذي ملأ الدنيا وشغل الناس, وجمع منجزه الخطابي والعلمي في ستة مجلدات, بدأت الرواية بالحديث عن رؤيا المنتظر التي رأى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما يبشره بأنه المهدي المنتظر وأن من يخالفه كافر وأجلسه على مقعده.
استخدم كاتبنا تقنية الاستدعاء, فعن طريق الحفيد الذي سافر مع والده من خلال رحلة بالتروماي في ستينيات القرن الماضي, من منطقة الأشكلي قاصدين الخرطوم, وخلال تلك الرحلة لم يترك الوالد يد الابن, ظل قابضا عليها وهو يستعيد أحداث الثورة المهدية, ويحكي عن المهدي وحياته التي بدأها من لحظة احتضاره وبرفقته زوجته عائشة, تلك التي جعلها الكاتب راوية الأحداث شفاهة للجد الذي حكي بدوره للأب الذي يحكي الآن لنا فنسمعه مع ابنه, في الرحلة إلي الخرطوم.
لم تكن عائشة تحكي الأحداث فقط وإنما كانت تدافع عن التهم الموجهة للمهدي, أيضا كانت تخبرنا وهي تحكي للجد عن زوايا في حياة المهدي نجهلها, وتكشف لنا أسباب اتخاذه قرارات صادمة, فهي زوجته المحببة له التي تزوجها بعد وفاة أختها فاطمة, وكلتاهما ابنتا عمه, أحبها وقربها, وأسر لها بالكثير, حكت عن حواراتها معه, وكيف كانت تراجعه في المخالفات التي كانت ترتكب باسمه, رفضت أن يحرم على النساء الذهب والفضة, وأن يجلدهم على ذلك, وقالت غضبت من كلامه ورفعت رأسي عن صدره وقلت “وهل تظن أن هذا أمر حسن, النساء يجب ألا يعاقبن بالجلد، “ما أكرمهن إلا كريم”
وكانت رؤيتها, التي تسمت الرواية بها, ففي أثناء احتضاره رأت في المنام أنها هي أيضا تحتضر, وانتقلت إلي حالة مابين الموت والحياة, فتقول: “رأيت بالبصيرة أننا في برزخ بين السماء والأرض, وكأنه قد كشف عنا الغطاء, ثم رأيت أنا نستفتح بابا في السماء, وبعد قليل فتح ذلك الباب ….”
استغرقت هذه الرؤيا عشرين صفحة من الرواية, من ص72 حتى ص 92, كانت كلها مثولا للمهدي أمام الحساب, وسؤاله عن كل ما فعل وما قام به من ادعاء المهدية والحروب التي سعرها وقتل فيها العلماء والشيوخ والنساء وأراق الدم الحرام, والعقيدة التي فرضها, وتكفيره لمن لم يؤمن به, وتحريمه للمذاهب وحرقه كتبها, كل هذا وهو يدافع عن نفسه
كانت هذه هي محاكمة للمهدي استخدم فيها الكاتب هذه التقنية, كي يوقف لدينا المهدي أمام التاريخ بما له وما عليه.
في هذه الرواية عرفنا مدينة الخرطوم وما حفلت به من تحلل وانفلات بواسطة الاحتلال التركي والإرساليات, كانت مرتعا للرذيلة, حتى وصل الأمر أن يتزوج الرجل الرجل والمرأة المرأة.
الرواية حافلة بالأحداث التاريخية الهامة من حصار الخرطوم ومقتل جردون ذلك الحاكم العادل، الذي حظي بدفاع منصف من عائشة, كونه في الأصل قسيس لا يحب الظلم ولا يقبل الحرام في مطعمه أو مشربه, ويتصدق علي الفقراء, ويرق قلبه للضعفاء.
ونختم هنا بالقول الفصل في الحكم على المهدي الذي جاء علي لسان الشيخ مضوي العلامة الذي تعلم في الأزهر وهو من أعلام الفقه والفتوي, وممن عاصروا المهدي ولحق به في جبل قدير وحاوره كثيرا, حينما سئل عنه قال: أن محمد أحمد المهدي رجل غيور على الإسلام, لكنه ليس هو المهدي, ولما سئل عن ذلك قال, إن المهدي يخالف الإسلام في أساسيات, مثل أنه يكفر من لا يؤمن بالمهدية, التي هي ليست من أركان الإسلام, فالمهدية حركة سياسية أكثر من كونها حركة دينية, ومحمد أحمد عطل الحدود الشرعية, فمنع الحج, ولم تكن فيه علامة واحدة من علامات المهدي المنتظر.
لغة الرواية لغة جزلة راقية كما عودنا أديبنا الكبير د. عمر فضل الله, وبأسلوبه الجذاب السلس ظللت مسكونة بها حتي بعد أن انتهيت منها
كل الشكر لأديبنا الكبير الدكتور عمر فضل الله على هذه الوجبة الدسمة من المعرفة التاريخية التي قدمها لنا بأناقة أديب محترف, وفي انتظار المزيد من الإبداع الروائي المتميز.
وداد معروف