Torgoman-smallهَذِهِ الروايةُ تَعْكِسُ بَعْضَ جَوَانِبِ شَغَفِي بِحِقْبَةٍ هَامَّةٍ في تَأرِيخِ شِمَال شَرْقِ أفريقيا، فَهِيَ تَرْوِي أَحْدَاثَاً وَوَقَائِعَ على ضِفَافِ النيلِ الأزرَقِ في القُرُونِ الوُسْطَى، نَسِيَهَا الناسُ، إلا بَقَايَا أَطْلالٍ قَديمةٍ هَامدةٍ، أو عِبَارَاتٍ نُقِشَتْ عَلى صَفْحَاتِ الكُتُبِ القَدِيمةِ المَنْسِيَّةِ التي لَمْ يَعُدْ يَقْرَأهَا أَحَدٌ. قَرَّرْتُ أَنْ أَتَخَلَّى عنْ حَاضِرِي قَليلاً وَأَسْتَنْطِقََ ذَلكَ الماضي بِعَقْلِي وَكِيَانِي. وَحِينَ انتقلْتُ إليه حَدَّثني أَنَّ تِلْكََ الأَمَاكنَ والوقائعَ كانت نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ في تأريخِ المِنْطَقَة ِعَلى الأقلِ إنْ لَمْ يَكُنْ في تأريخِ الإنسانيةِ كُلِّهَا. لَقَدْ كَانَ البَرُّ الغَرْبِيُّ لِلْبَحْرِ الأَحْمَرِ وَضِفَافُ النِّيلِ الأَزْرَقِ في تِلْكَ الحِقْبَةِ مِنَ الزَّمَانِ مَلاذَاً لِلْعَرَبِ المسلمينَ المهاجرينَ مِنْ مَكَّةَ في جزيرةِ العربِ بِدِينِهِم الجديد إلى مَمْلَكَةِ عَلَوَة المَسِيحِيَّةِ في أَفْرِيقِيا، التي آوَتْهُمْ وَمَكَّنَتْهُمْ مِنْ بِنَاءِ عَلاقَاتٍ إِنْسَانِيَّةٍ رَاسِخَةٍ مَعَ أَهْلِهَا. وَكَانَتْ هَجْرَتُهُمْ هِيَ أَوَّلَ سِفَارَةٍ إِسْلامِيَّةٍ سِلْمِيَّةٍ وَبَقِيَتْ هُنَاكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ عَامَاً وَفَتَحَتْ أَمَامَ المسلمينَ سُبُلَ الدَّعْوَةِ للدينِ الجَدِيدِ.
وَبِقِرَاءَةٍ ثَانِيَةٍ وَجَدْتُ أَنَّهَا كَانَتْ نَظْرَةً اسْترَاتيِجِيَّةً عَسْكَرِيَّةً نَاجِحَةً مِنْ قِبَلِ المسلمين تِجَاهَ مُسْتَقْبَلِ الإسلامِ في أَفْرِيقِيَا، لأَنَّكَ إِنْ كُنْتَ سَتُقَاتِلُ فَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَهْرُكَ مَحْمِيَّاً. وَإذَا قَضَتْ المؤسَّسَاتُ العَسْكَرِيَّةُ، وَمِنْ وَرَائِهَا الكِيَانُ السِّيَاسِيُّ الذي يَحْرُسُ الدَّعْوَةَ أَنَّهَا سَوْفَ تَتَّجِهُ إِلى آسِيَا (الفُرْس) وَإِلى أُوُربَّا (الرُّوم) فَكَانَ لا بُدَّ مِنْ تَحْيِيدِ ظَهْرِهَا الذِي هُوَ الجَبْهَةُ الثَّالِثَةُ فِي أَفْرِيقِيَا (الحَبَش) حَتَّى لا تَطْعَنَهُمْ جَبْهَةُ الحَبَشِ مِنَ الخَلْفِ، وَقَدْكَانَ فِي مَقْدُورِهَا أَنْ تَفْعَلَ، لأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ مُحَاوَلاتِ الرُّومَانِ المُتَكَرِّرَةِ للسَّيْطَرَةِ عَلى الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ وَمحُاَوَلاتِ الفُرْسِ قَبْلَ الإِسْلامِ أَنَّ أَوْجَعَ الضَّرْبَاتِ للجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ كانَتْ مِنْ قِبَلِ الحَبَش. وَلِذَا فَالخَطَرُ الحَقِيقِيُّ كانَ هُوَ مِنْ جِهَةِ أَفْرِيقِيَا. وَإِذَنْ فَقَدْ كانَ تَحْيِيدُ الحَبَشِ هُوَ الهَمُّ الأَكْبَرُ وَالخُطَّةُ الإِسْتراتيجيةُ الناجِحَةُ. وَلذلكَ فَإِنَّ الرَّسُولَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَرْسَلَ وَفْدَهُ إِلَى أَقْوَى المَمَالِكِ فِي بِلادِ الحَبَشَةِ، وَأَكْثَرِهَا اسْتِقْرَارَاً (مَمْلَكَةِ عَلَوَة المَسِيحِيَّةِ) وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى المَدِينَةِ، وَقَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الكِيَانَ السِّيَاسِيَّ، فَكَانَتْ هَذِهِ أَنْجَحَ سِفَارَةٍ فِي تَأرِيخِ الإسْلامِ كُلِّهِ، لأَنَّهَا أَدَّتْ أَهْدَافَهَا وَحَيَّدَتِ الحَبَشَ حِيَادَاً تَامَّاً إِزَاءَ النِّزَاعِ العَالمَِيِِ الذي نَشَأَ بَعْدَ ذلَكَ بَيْنَ المسلمينَ وبينَ كُلٍّ مِنَ الفُرْسِ والرُّومِ. وَيُلاحَظُ أَنَّ الحَبََشَ تَدَخَّلُوا قَبْلَ الإسلامِ في أيامِ ذِي نُوَاسٍ بِإِيعَازٍ مِنَ الرُّومِ فَوَصَلُوا حَتَّى مَشَارِفِ مَكَّةَ. وَلَكنْ بَعْدَ مَجِيءِ الإِسلامِ وَشُرُوعِهِ في مُوَاجَهَةِ الرُّومِ، عَجِزَ الرُّومُ أَنْ يُوعِزُوا إلى الحبَشِ بالتدَخُّلِ. وَقَدْ آثرَ الأحباشُ ألا يَتَدَخَّلُوا بَعْدَما عَلِمُوا حَقِيقَةَ الدِّينِ الجديدِ القادمِ الذي هُوَ خَيْرٌ لهُمْ مِن مُوَالاةِ الرُّومِ. وَكَانوا قَدْ رَأَوْا سَيْطَرَةَ الرُومِ وَسَيْطَرَةَ الكَنِيسَةِ مِنْ وَرَائِهِ عَلى مِنْطَقَة ِالحبَشِ، الذين رَأوا أَنَّ الخَيْرَ لَهُمْ يَكْمُنُ في انتصارِ هذهِ الدعوةِ الجديدةِ فَمِنْطَقَةُ الحَبَشِ تَعْتَبِرُ جَزِيرَةَ العَرَبِ أَقْرَبَ إَلى أَفْرِيِقيَّتِهَا، لأنَّ الحَبَشَ كَكِيَانٍ أفريقيٍ كانَ مُنْحَازَاً نَحوَ أفريقيتهِ أَكْثَرَ مِنْ انحيازِهِ لمسيحيتهِ، وَبِذَا فَلَمْ يَكُنْ مُتَحَمِّسَاً لاتباعِ سِيَادَةِ دَوْلةٍَ قَائمةٍ في أُورُبا (الرُّوم) حَتَّى لَوْ كانتْ مَسِيحِيَّةً فَلَمْ يَكُنْ يَكْفِي كَوْنَهَا مسيحيةً. وَرُبَّمَا لَوْ كانتْ أفريقيةً لكانتْ تَبَعِيَّتُهُ وَطَاعَتُهُ لَهَا أَكْبَرَ. وَيُمْكِنُنَا القَوْلُ إِنَّ الخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ أَجَّلُوا غَزْوَ هَذِهِ المِنْطَقَةِ عَسْكَرِياً حَتَّى فُتِحَتِ الفُرْس (الجَبَهْةَ ُالشَّرْقَيَّة) قَبْلَ أَنْ يُدِيرُوا ظَهْرَهُمْ مُتَّجِهِينَ للجبهةِ الغربيةِ (الحبش) وإلا، فَقَدْ كَانُوا سَيَهْدِمُونَ استراتيجيةَ السِّفَارَةِ السِّلْمِيَّةِ التي أَسَّسَها الرسولُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَيُحَرِّكُونَ الجَبْهَةَ السَّاكِنَةَ التي أَرَادَ لهَا الرَّسُولُ أَنْ تَكُونَ مُحَايِدَةً. وَكَانَ مَنْ بَدَأَ غَزْوَ هذِهِ المِنْطَقَةَ عَسْكَرِيَّاً هُوَ الخليفةُ الثَّاني عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مِنَ المُهَاجِرِينَ إِلى الحَبَشَةِ، وَلِذا فَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّفْ عَلى الحَبَشِ مِنْ قَريبٍ كَمَا تَعَرَّفَ عَلَيْهِمْ الخليفةُ الثالثُ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانٍ، وَلَمْ يَفْهَمْ طبيعةَ إِنسانِ النُّوبَةِ القَديمِ، الذي وَصَفَتْهُ التوراةُ بِأَنَّهُ : « أُمَّةٌ طَوِيلَةٌ وَجَرْدَاءُ… شَعْبٌ مَخُوفٌ مُنْذُ كَانَ فَصَاعِدَاً أُمَّةَ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ وَدَوْسٍ قَدْ خَرَقَتِ الأَنْهَارُ أَرْضَهَا»( ). وَرُبَّمَا لَوْ بَقِيَ الحَالُ كَمَا هُوَ فِي عَهْدِ عُمَرَ لاسْتَمَرَّ القتالُ مَعَهُمْ بِلا نِهَايَةٍ. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ الخليفةُ عُثْمَانُ بنُ عفانٍ إلى الخلافةِ أَوْقَفَ الحرْبَ وَعَقَدَ مُعَاهَدَةَ الصُّلْحِ مَعَ إِحْدَى مَمَالِكِهِم الشِّمَالِيَّةِ، وَأَعَادَ الأُمُورَ إلى نِصَابِهَا لأنهُ كاَنَ قَدْ هَاجَرَ الهِجْرَتَينِ الأُولى والثانيةَ للحَبَشَةِ وَعَرَفَ أَهْلَهَا وَكَانَ قَدْ أَسَّسَ جُذُورَاً للإسْلامِ فِي تِلكَ البِلادِ.
وَكَانَ أَهلُ الحَبَشَةِ قَدْ تَأَثَّرُوا جِدَّاً بالعربِ المُهَاجِرِينَ، فَقَدْ أَحَبُّوهُم لٍدَرَجَةِ أَنَّهُمْ بَقَوْا فيِ ذَاكِرَةِ الِمِنْطَقَةِ إلى يَوْمِنَا هَذا فَمَا تَزالُ الأسماءُ الغَالِبَةُ على أَهْلِ تِلْكَ المِنْطَقَةِ هِيَ أَسْمَاءُ الصَّحَابَةِ المُهَاجِرينَ الأوائلِ منَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ: “جَعْفَرُ”، وَ”الزُّبَيْر”، وَ”عُثْمَانُ”، وَ”ابنُ عَوْفٍ”، وَ”رُقَيَّة”، وَ”أَسْمَاءُ”. وَاخْتَفَتِ الأسماءُ القَدِيمَةُ “دُوجُّو” و”سِمْبَا” و”دُومَاكَا” وَ”عِبْدِي” و”سِيْسِّيا” وَ”مُونيِتَا” وَ”سُونِيتَا” وَ”سُنْجَاتَا”.
المُؤَلِّفُ