(الحلقة 1)
الذكرى الثامنة والثمانون بعد الأربعمائة لميلاد أول دولة إسلامية في السودان يتم الإعلان عنها من مسيد الشيخ إدريس بن محمد الأرباب بالعيلفون
في مثل هذا العيد – عيد الأضحى – منذ 488 عاماً من الآن تم الأعلان عن قيام سلطنة الفونج والعبدلاب كأول دولة سودانية ذات هوية موحدة وذلك في أول أيام عيد الأضحى الموافق ليوم الأحد العاشر من ذي الحجة عام 935هـ – الخامس عشر من أغسطس عام 1529م. من مسيد الشيخ إدريسبن محمد الأرباب بمنطقة بتري الشرقية (العيلفون).
أهدي هذه السلسلة من المقالات إلى أبينا وجدنا الأكبر الشيخ إدريس وإلى نسله وأحفاده من بعده ومحبيه، وإلى الأمة السودانية التي مازالت تتطلع إلى مصلح رباني مثله يوحد شتاتها ويقوم معوجها ويقيم أركانها وينصح سلطانها.
عمر أحمد فضل الله

هل قلت لكم إن الشمال الشرقي لإفريقيا هو المحور الذي دارت حوله عجلة تاريخ الدول والسلطنات والممالك في المنطقة كلها؟ وأنا الذي كنت أظن – مثل كثيرين- أن هذه البقعة من العالم بقيت جزيرة يتيمة معزولة ومنسية في محيط تاريخ الأحداث التي دارت حولها، وأنها كانت ذات أثر قليل وذكر خامل. لكنني حين قرأت التاريخ القديم المدون في التوراة ثم تاريخ العرب في الأندلس (غرب أوربا) وتاريخ الفونج في السودان (شرق إفريقيا) ثم تاريخ الدولة العثمانية (شرق أوربا والشام ومصر) أيقنت أن هذه المنطقة استمرت محوراً تدور حوله أحداث التاريخ في زمان الدولة السنارية، وفيما قبله من الأزمنة، فقد بقيت صانعة أحداث وصفتها التوراة بأنها أمة طويلة وجرداء وشعب مخوف منذ وجوده على ظهر البسيطة وأنها أمة قوة وشدة ودَوْسْ أي أمة حرب وقتال وأن الأنهار قد خرقت أرضها، فهي أرض خضرة وخير ونماء ولهذا فما قويت شوكة دولة حولها إلا استهوتها أرضها، وطمعت في ثرواتها وأموالها فجمعت جيوشها لتغزوها وتبسط عليها سلطانها. لكنها ظلت على مدار الزمان أرضاً عصية على الغزاة، وعرة المسالك، وبقيت شعوبها شديدة البطش تذيق المعتدين المهالك.

ثم أدركتُ أن التاريخ يعيد نفسه بدقائق تفاصيله، وكأنه عجلة واحدة عملاقة تدور حول محورها والدول والأيام تروس فيها. كلما غابت شمس يوم من أيامها في مكان انقلبت على أعقابها لتعيد أحداث ذلك اليوم نفسه من جديد في بقعة أخرى. وكأن أقدار الله أن تقوم سلطنة الفونج في إفريقيا متزامنة مع سقوط دولة الأندلس في أوربا فما أن غربت شمس تلك من الغرب حتى أشرقت شمس هذه من الشرق لتعيد التوازن في القارتين بعد اختلال. ولم يكن بين الغروب والشروق إلا اثنا عشر عاماً من عمر الزمان مثل ساعات ليل أعقبه طلوع الفجر!
رأيت أن الدولة الفُنْجِيَّة هي أندلس أخرى إفريقية وأن ملكها السلطان المؤسس «عمارة ولد عدلان» والذي يقال إنه من سلالة ملوك بني أمية أعظم ملوك الزمان! قد أعاد بناء مجد بني أمية الذي اندثر في الأندلس فأحياه في الشمال الشرقي لافريقيا. ومثلما مضى بعض أجداده من بني أمية في القديم من الشرق إلى الأندلس فأنشأوا حضارة بقيت سبعمائة وواحد وثمانين عاماً جاء أجداه من بني أمية أيضاً إلى شرق إفريقيا ولبثوا ينتظرون دوران عجلة الأيام لينشئوا مُلكاً في قلب هذه القارة فيبقى ثلاثمائة وسبعة عشر عاماً.

لم يكن «عمارة» إذاً طارئاً على الملك! وقد وصفه من عاصره ورآه من المؤرخين بأنه أسود اللون لكنه يحكم البيض والسود معاً، فهيبته هيبة الملوك وسَمْتُهُ سَمْتُهم سجية في غير تكلف. علماء أندلسيون كثيرون جاءوه خاضعين. قدموا له فروض الولاء والطاعة وبايعوه ثم جلسوا أمامه وكأنهم يعتذرون عن التفريط في حضارة حكمت الغرب باسم الإسلام ثمانمائة عام ثم انفرط عقدها وهجرها أهلها قاصدين هذه الدولة الوليدة. هجرة علماء الأندلس كأنها تقول لنا إن هذه الدولة الجديدة هي امتداد لحضارتهم هناك فمذهبها هو مذهب مالك في الفقه ومؤلفاتها هي مؤلفات الأندلسيين، بل إن كثيراً منها جاء إلينا من هناك، وعلماؤها نزح جلهم أو بعضهم من تلك البلاد، ونظام إدارتها هو نظام الإدارة الأندلسي رغم أن هذه الدولة لم ينشأ بنيانها وتكتمل أركانها إلا بعد عقدين ونصف من الزمان منذ سقوط دولة عَلَوَة وتفرق أهلها في البلاد.

ظل «عمارة» (ملكاً) في الجنوب الشرقي مدة من الدهر وحوله عشرات الآلاف من الجند من مختلف القبائل والسحنات واللغات. منهم ذوو الألوان السمراء والسوداء والزرقاء والخضراء وفيهم الشقر وذوو الأعين الخضراء ومنهم من جاء من الغرب من كانم والبرنو وفيهم من نزح من الشرق من بني شنقول وجبال الحبشة وهضابها. وتجمع حوله الفونج من الشرق فتحالفوا مع القبائل القادمة من الغرب وبقوا سنين عدداً متنقلين لم ينشئوا دولة ولم ينصبوا عليهم (سلطاناً)، وكأنهم كانوا ينتظرون توقيتاً أو إشارة من قائدهم (الملك) «عمارة ولد عدلان» الذي كانوا يجلونه أيما إجلال. وكثيرون منهم حين جاءوه وتحالفوا معه كانوا على وثنيتهم إلا أنه لم يغصبهم على عقيدة ولم يطردهم من سلطانه بل بقي يتألفهم بالمعاملة الحسنة والرعاية والعناية فأخلصوا له ودخلوا في الدين طواعية لا كرهاً وصاروا جنوداً للدولة السنارية قاتلوا من أجلها ودافعوا عنها.

وفي الشمال تجمعت القبائل العربية وعلى رأسها القواسمة العبدلاب شمال منطقة سُوبَا بعد سقوط عَلَوَة. وكان حكامهم ملوكاً فيما بينهم لكنهم هم أيضاً لم ينشئوا (سَلْطَنَة) فقد كانوا يعلمون أنهم لو أنشأوها منفردين فإن ذلك لن يرضي «عمارة» وجيوشه كثيرة العدد التي كانت تدخل أرضهم متى شاءت وتبقى فيها كيفما شاءت فتحالفوا معه وبقوا وكلاء له بعد أن كانوا وكلاء لملوك عَلَوَة قبله فاستمروا في حكم قبائلهم العربية في الشمال وجباية الضرائب منها لصالح الملك «عمارة».
قلت لكم إنني حين قرأت تاريخ الفونج وتاريخ الأندلس رأيت تماثلاً في قيام الدولتين. ففي شمال غرب إفريقيا مثلما شرع موسى بن نُصَيْر في تثبيت الدين الإسلامي في الأمازيغ وجعل القيروان قاعدة حصينة في قلب إفريقيا، واعتمد سياسة معتدلة ومنفتحة تجاه البربر الوثنيين مما حوّل معظمهم إلى حلفاء وأنصار، فدخلوا في الإسلام وأصبحوا فيما بعد عمادَ جيشه لدخول الأندلس بقيادة طارق بن زياد، كذلك فعل «عمارة ولد عدلان» فقد نجح في جمع القبائل الوثنية المبعثرة من البَرْتَا وبني شَنْقُول والهَمَج والنوبة والبِجَة والزُّنُوج فتحالفوا معه واتبع سياسة منفتحة تجاههم وأدخلهم في الإسلام وجعلهم جنوداً للدولة.

ومثلما أرسل «موسى بن نصير» القائد الشاب «طارق بن زياد» من طنجة مع جيش صغير من البربر والعرب في الثلاثين من أبريل عام 711م عبر المضيق الذي سمي على اسمه، فاستطاع الانتصار على القوط الغربيين وقتل ملكهم لذريق في معركة جُوَادَالَيتي في التاسع عشر من يوليو عام711 م وفتح الطريق لقيام دولة جديدة كذلك فعل «عبد الله جماع» قائد عرب (القَوَاسْمَةْ) ووكيل «عمارة دُونْقُس» حين انتصر على النوبة وقتل قائد جيوشهم البَطْرِيَرْك «دِيرِين» ودخل مدينة سُوبَا عام 1504م فهدمها ومهد الطريق لقيام دولة جديدة. في حين اجتمعت عند الملك «عمارة» قبائل الأمْبَرَرُو الفُلانُو الجَافُون والمُورِي والدُّوقَّا والقرا والبَرْتَا والبُرُون والبَرْنُو وبَلْدَقُو والجَبَلاوِين والحَمْدَة والرَّقَارِيق والزَّبَالْعَة والزَّبَرْطَة الهَوْسَا والقَبَاوِين والسَّرْكَمْ والفَلاتَة الفُولاني مع قبيلة الفُونْج الكبيرة فصنعوا لهذه البلاد مجداً.

الفونج والعبدلاب ومن تحتهم من القبائل والممالك والمشيخات كانوا محتاجين أن يتوحدوا تحت سلطان واحد في دولة قوية ذات سيادة. لكن ذلك لم يحدث بعد خراب سُوبَا وسقوط عَلَوَة حتى جمعهم (الأرباب) «إدريس ولد محمد» في بُتْرِي الشَّرْقِيَّة بعد خمس وعشرين عاماً من سقوط سُوبَا لما جاء الملك «عمارة ولد عدلان» بأسرته وأهله وجاء الملك «عبد الله جماع» بأسرته وأهله.

«إدريس» وحَّدَهُم ثم أعلن قيام الدولة من مسيده في (بتري الشرقية) أول أيام عيد الأضحى في يوم الأحد العاشر من ذي الحجة عام 935هـ – الموافق للخامس عشر من أغسطس عام 1529م بعد خمس وعشرين عاماً من سقوط سُوبَا عاصمة دولة عَلَوَة لينتقل «دُونْقُس» من (لُولُ) (أُولُو) (بفازوغلي) إلى (سنار) عند (جبل موية) فتكون هي عاصمة الدولة وكرسي ملكه. وينتقل العبدلاب من بعد ذلك من (قرِّي) عند (جبل الرويان) إلى (الحلفايا) لتكون كرسي ملكهم.
جبلا (موية والرويان) إذن كانا مقار السلاطين. و(دُونْقُس وجماع) سلطانان مثل الأخوين إلا أن رتبة «عمارة» أعلى وأعظم من رتبة «عبد الله» إذا اجتمعا في مكان واحد وأما إذا غاب «عمارة» فيعامل «عبد الله» كما يعامل «عمارة» الذي جاء بأسرته الحاكمة جميعها إلى (بُتْري الشرقية) لتكون منتجعه ويكون قريباً من مفتي الدولة ومرجعها «إدريس ولد محمد الأرباب» وقريباً من «عبد الله جمَّاع» شيخ العبدلاب وملكهم.

ويتغير اسم البلدة لتوثق هذا الحدث الفريد في التاريخ حيث اجتمعت الأسرة الحاكمة للفونج والعبدلاب معاً فيطلق الناس عليها (العيلة فونج) بلغة الفونج، أي (الأسرة الحاكمة). وتقوم السلطنة ويعلن اتحاد الفونج والعبدلاب من مسيد ولد الأرباب الذي يصبح هو المرجعية الدينية لسلاطين الفونج والعبدلاب معاً، يأتونه لفض النزاعات ولتكون له كلمة الفصل فيها لا يُرَدُّ كلامُهُ ولا تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ.

وحين يعرض عليه الملك «بادي بن رباط» نصف ملكه يرفضه ويطلب أن يكون له الفصل في المنازعات. الملك «بادي» تكلم باسم الفونج وباسم العبدلاب أيضاً فعرض على «إدريس» نصف (دار العسل والبصل) وأراد أن يمنحه كركوج وسنجة ودار الشايقية ودنقلا. لكن «إدريس» قال له بصدق العلماء وزهد الأتقياء:
– الدار دار النوبة والأرض أرض النوبة وأنتم غصبتموها منهم. أنا لا أقبلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ ظَلَمَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ”.
وعندما رأى ذهول الملك من هذا الرفض الحاسم عرض عليه عرضاً لا يمكن أن يرفضه. قال للملك:

– أعطوني الحجز في كل شيء والوساطة وفض المنازعات والصلح بين المتشاجرين .

فأعطاه الملك الحجز في كل شيء كما طلبه، وأصبح صاحب فض المنازعات لدى ملوك سنار. ثم جمعهم على الفقه والقضاء المالكي ونصح «عمارة» بتقريب العلماء والفقهاء. الله سخر هذا الرجل المبارك ليشد عرى السلطنة بحبل متين من رباط الدين. لكنه بقي بعيداً عن سنار وقرِّي زاهداً في السلطة والملك لا يقف عند أبواب السلاطين بل السلاطين يأتونه فيقفون عند باب خلوته ومسيده. لكن لما كثرت المظالم في سنار أكثر إدريس من الرحلة إليها لنصح السلطان برفع تلك المظالم. والسلطان لا يرد له شفاعة ولا ينقض له حكماً. ومثلما اعتمده شافعاً وقاضياً وحكماً اتخذه للبركة أيضاً فحين تشتكي والدة السلطان يؤتى لها بإدريس ليقرأ عليها القرآن ويرقيها بآياته وينفث بريقه لتشفى أم السلطان ببركة القرآن.
إليك أيها الشيخ الجليل إدريس بن محمد. أيها الأرباب. أهدي بعض ثمرات غرسك. من حفيد محب فتح عينيه على بقايا آثار الملاجيء التي أقمتها منذ نحو أربعمائة وتسعين عاماً لتكون مأوى للخائفين وملاذاً لطالبي الشفاعة والباحثين عن الأمان وداراً لحفظ القرآن ثم من بعد ذلك رمزاً وفخراً لأبناء السودان.
ترقبوا الحلقة الثانية في العدد القادم.