خبير أمن المعلومات والحوكمة د.عمر فضل الله في حوار مع (الأحداث) : آل دقلو صناعة غير محسوبة العواقب ما دمنا أدخلنا الطوابير والجواسيس والخونة وتغلغلوا في مفاصل الدولة ، فإن الحرب لن تتوقف أبدا نحتاج لإنشاء دولة قوية ذات قدرات دفاعية متطورة

حوار : عبد العزيز عبد الوهاب

نبه الخبير الاستراتيجي والمتخصص في الحوكمة وأمن المعلومات الدكتور عمر أحمد فضل الله ، إلى ضرورة السعي بشكل عاجل وحاسم لإنشاء دولة قوية ذات قدرات دفاعية متطورة لحماية أمن الوطن، والدفاع عن مقدراته ومكتسباته وفق رؤية جامعة موحدة .

وحذر من أن حظوظ تقسيم السودان تبدو شاخصة ، فالاحتقان ما يزال قائماً وآثار الحرب لم تمح والخراب والدمار الذي حاق ببلادنا يتطلب الحكمة في إعادة الإعمار .

وقال الروائي والشاعر الذي أسس نظام الرقم الوطني لوزارة الداخلية السودانية عام 1994م ،
والمتخصص في هندسة الأمن والحماية ( للأحداث) إن البلد يحتاج إلى قيادات غير تقليدية لإحداث تغيير غير تقليدي وإعطاء إجابات دقيقة لقضايا الأمن القومي والهوية والسياسة والاقتصاد والعلاقات الخارجية .

لكنه عاد ليؤكد أن السودان دولة ( شابة) ولدينا سانحة أرجو ألّا نضيعها ، فالمستقبل أمامنا والسودانيون قد اتحدوا وتجدد لديهم الأمل من بعد الحرب في بناء دولة قوية ناهضة . يقف السودان اليوم على ( مفرق) طرق تاريخي، إنسانيا ، مؤسسيا ، اقتصاديا ..كيف توصف حال هذا الثالوث ؟

تاريخيا ، نحن نعيش اليوم أزمة تغيير الهوية والصراع الزائف المصطنع للأعراق. ذلك إن اسم السودان لا يعبر تعبيراً حقيقياً عن طبيعة سكانه ولا يصفهم الوصف الواقعي الذي يليق بهم، بل هو اسم شائه أطلق في القديم على سكان الرقعة التي تضم أصحاب البشرة السوداء الممتدة من البحر الأحمر شرقاً وحتى المحيط الأطلنطي غرباً (السودان الكبير) أو بلاد السودان التي كانت منذ القديم موطناً لتحبش كثير من القبائل والأعراق والشعوب، ولهذا أطلق عليها في القديم اسم الحبشة أي مكان تحبش وتجمع القبائل.
ثم جاء الأتراك فكانت أولى الكوارث التي ارتكبوها في حق هذه البلاد – وهي كثيرة – أن غيروا اسمها فأطلقوا عليها بلاد السودان فجردوها بذلك من هويتها القديمة المعروفة تاريخياً والمذكورة في الكتب السماوية بكونها أرض كوش ونبتة وأرض النوبة وإثيوبيا والحبشة فغيروا اسمها إلى أرض السودان.
ثم أعقبهم الإنجليز فقلصوا حدود بلادنا التي كانت تشمل إثيوبيا وارتريا شرقاً وتمتد غرباً إلى تشاد وما وراءها وتمتد جنوباً إلى داخل يوغندا وهكذا.
هذه التركيبة السكانية من يعرف مفاتيحها يستطيع قيادتها والسعي بها نحو النجاح. وقد أدرك أعداء السودان هذه الحقيقية فوظفوا هذا التنوع السكاني واختلافه لمصالحهم فأوجدوا الصراعات والحروب القبلية بين الأقليات وزرعوا الفتن وأسبابها والأمثلة على هذا كثيرة وعصية على الحصر.

إن القراءة الصحيحة لتاريخ السودان هي مفتاح القراءة الصحيحة لحاضره ومستقبله، فمن الملاحظات على من يخططون لأمر السودان اليوم هو أنهم لم يدخلوا في حسابهم تسجيل التاريخ الاجتماعي السوداني كاملاً لتكتمل عندهم صورة المجتمع الذي يحكمونه أو يخططون له، ذلك أن من يتصدى لحكم السودان لابد له أن يدرس تاريخه ويرصد نمو مجتمعاته ويتتبع أطوار بناء الأمة السودانية.
إن تاريخ السودان أجمع قسمان كبيران أحدهما منذ ما قبل التاريخ إلى عام 1820 عاشه السودان حراً في اختياره مستقلاً في إدارته، والآخر منذ عام 1820 إلى اليوم عاشه السودان إما مستعمراً مستلب الحرية والإرادة أو مستقلاً لكنه مكيف بالأثر البالغ لفترتي الاستعمار التركي والبريطاني عليه ووقائع هذين القسمين مرتبطة بأطوار نمو الأمة السودانية ومؤثرة في شخصيتها وهويتها. وبذلك فإن الأحزاب والطوائف الحالية هي نتيجة الصراع التاريخي منذ السلطنة السنارية، ومواقف الأحزاب والجماعات اليوم هو تبع لمواقفها أمس ومواقفها أمس تبع لمواقفها أول أمس لم تتغير تغيراً جذرياً بل لبست أقنعة مزيفة تخفي وراءها وجوه تبعيتها وانتماءاتها الحقيقية. وباستطاعتنا أن نتعقب تواريخ الأحزاب والطوائف الحالية في السودان إلى جذور متصلة اتصالاً عضوياً بوقائع تقوض السلطنة السنارية وقيام الإدارة التركية المصرية. فالصراع على السلطة خلال العقود الأخيرة من عهد السلطنة السنارية شكل الطوائف والجماعات على نحو هيأ لمواقفها من الحملة التركية المصرية على السودان عام 1820 موالاة أو معاداة. ومواقفهم من الحملة ترتب عليها موقف الإدارة التركية المصرية على نحو أملى مواقفهم من الثورة السودانية على الأتراك التي قادها محمد احمد المهدي. وعلى تلك المواقف ترتب موقف الإدارة المهدوية إزاء كلٍّ. ثم جاء الغزو المصري البريطاني وتشكل السودان الحديث على نحو نلمح فيه في مواقف الجماعات والطوائف أنها مترتبة على أساس وضع منذ القرن التاسع عشر وبذا فإن جميع الأحزاب الكبيرة هي أحزاب مستوردة تمت صناعتها لتخدم المطامع والمصالح الخارجية. ولو رددنا إلى ذلك الأساس تفسير كثير من مواقف الجماعات والطوائف اليوم نكون أكثر توخياً للدقة ونتمكن من فهم المعادلتين الاجتماعية والسياسية وعلى أساس ذلك يمكننا التخطيط لمستقبل البلاد.
وما أثر الدور التركي زمانذاك ؟

حين جاء الأتراك للسودان وجدوا ممالك سودانية يحكمها نظام فدرالي فقوضوه، ففي عهد السلطنة السنارية كان القطر السوداني عبارة عن ممالك. على كل إقليم ملك (مَكْ) وكل إقليم يسمى داراً: دار دنقلا، دار مروي، دار شندي، دار سنار وهكذا. وكانت وثائق الدولة الرسمية تسمّ كل دار باسم جغرافي لا عرقي وإن كان معلوماً أن دار شندي هي دار جعل، ودار سنار المحصورة بين النيلين الأبيض والأزرق هي دار الفونج التي يسكنها من قديم قبائل شتى سوى الفونج. فكان حكيماً تصرف الدولة آنذاك في وسمها الدار بسمة جغرافية لا عرقية. إلا أن نظام المديريات التركية المتطور تباعاً حتى انتهى إلى الولايات القائمة اليوم، يستند إلى غير الرؤية التي استند عليها قديماً نظام الدار. فهذه كارثة كبيرة في واقع السودان اليوم وحاضره فكثير من مشكلات الأقاليم مردها إلى هذا النظام الذي بني على طبيعة لا تشبه مكونات المجتمعات في السودان. فنحن نشهد اليوم نظام ولايات مشوه لا يعكس البناء الاجتماعي للأمة السودانية. ولم يكن ذلك النظام (الفدرالي) من ابتداع السلطنة السنارية، بل قد ظل أمر السودان في إدارته على ذلك منذ العهد الفرعوني. وبه سمي السودان قديماً (دار الأقواس التسع)

وإلى ماذا ترمز هذه الأقواس ؟

كان لكل مملكة قوس يرمز لها ويعتبر شعارها. وعلى ذلك سارت الدولة السنارية ، فلما ابتنى سلطان سنار قصره جعل في سوره في حائط واحد تسعة أبواب، يدخل من كل باب كبير إقليم جرياً على ما كان عليه السودان على مدار التاريخ القديم. وجرى الأمر على أن يختار كل إقليم ملكه بطريقة متوارثة. إلا أنه بعد اختياره لا يحكم حتى تتم مباركة السلطان أو ملك الملوك في سنار اعترافاً بالسلطة المركزية. وفي مثل هذا النظام تكون الشورى والتراضي أساس التعامل السلمي بين الأقاليم والمركز. واليوم نحن أشد ما نكون لإعادة قراءة تاريخنا وتصويب أخطاء الماضي والحاضر حتى نصحح مسار المستقبل ونعيد لبلادنا هويتها الحقيقية وطرائقها في إدارة مناطقها الداخلية وفهم إنسانها وتركيبة سكانها فنحن بالفعل على مفترق طرق تاريخياً.

وما رؤيتك للمفْرق على الصعيد الإنساني ؟

أما إنسانيا فإننا نعيش مأساة غير مسبوقة في التاريخ. إن إنسان السودان هو صانع حضارات تمتد جذورها لأكثر من سبعة آلاف عام، وقد كان على امتداد التاريخ هدفاً للغزوات والحروب المستمرة .

إذ لم يحدث أي تغيير في النظام الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني والأسري منذ عهد الفونج وهو ما ورثناه حتى اليوم فالأتراك لم يغيروا شيئاً جذرياً في الحياة السودانية. وكذلك المهدية لم تحدث التغييرالمنشود، فالمهدية حشدت ووحدت كثيراً من أهل السودان لطرد الأتراك لكنه كان توحيداً مؤقتاً فقد وقع الظلم على كل من لم يناصر المهدية وخاصة الرقعة النيلية الشمالية وزاد الطين بلة ظلم التعايشي.
أما الانجليز فقد وضعوا أعينهم على السودان والمنطقة منذ زمن بعيد حيث أرسلوا البعثات ودخلوا السودان انتقاماً من مقتل غردون وبخروجهم تركوا وراءهم مشكلة جنوب السودان بعدما زرعوا العنصرية والقبلية في كثير من مناطق السودان. ولم يخرجوا حتى تأكدوا أن صنائعهم من بعدهم سيحكمون السودان لعقود طويلة قادمة.
وبذلك لم يجتمع الشعب بعد خروج الانجليز حول الوطن الواحد فنشأ الصراع للسيطرة على الحكم بين المؤسسة العسكرية والأحزاب (الوطني الاتحادي أو الأمة – أو الجبهة القومية أو الشيوعي، أوالبعثي أو الجمهوري الخ) أو لتحكيم طائفة أو عرق معين. فتعددت المحاولات الانقلابية في السودان حيث حدثت أكثر من عشرين محاولة انقلابية معلنة وأضعاف ذلك مما لم يعلن عنه وجميعها نبعت من أحزاب طائفية أو عقائدية أو جهوية ففي عام 1957 بعد الاستقلال بسنة واحدة حدثت محاولة إسماعيل كبيدة والرشيد الطاهر بكر ضد أول حكومة وطنية ديمقراطية بعد الاستقلال برئاسة إسماعيل الأزهري. ثم انقلاب 17 نوفمبر 1958برئاسة ابراهيم عبود بعد سنة واحدة من محاولة انقلاب كبيدة ثم ثورة أكتوبر 1964 ضد نظام عبود ثم انقلاب جعفر نميري مايو 1969 ثم انقلاب الشيوعي في 19 يوليو 1971 ثم محاولة العميد سعد بحر في عام 1972 ثم ثورة الطلاب في 1973 ثم محاولة انقلاب المقدم حسن حسين عثمان عام 1975 ثم محاولة العميد محمد نور سعد في 2 يوليو 1976 ثم انتفاضة 6 أبريل 1985بقيادة سوار الدهب. ثم انقلاب يونيو 1989 بقيادة العميد عمر البشير ثم محاولة انقلاب رمضان عام 1990بقيادة اللواء عبد القادر الكدرو، واللواء الطيار محمد عثمان حامد ثم محاولة انقلاب عام 1992بقيادة العقيد أحمد خالد. ثم محاولة انقلاب عام 2004 بقيادة العميد محمد ابراهيم نسبتها الحكومة إلى حزب المؤتمر الشعبي المعارض ثم في 2008 محاولة حركة العدل والمساواة بقيادة د. خليل ابراهيم (الذراع الطويلة) وحدثت العديد من الهبات والثورات الشعبية في 2013 وغيرها والثورة الشعبية في ديسمبر 2019 الخ كانت معظم المحاولات الانقلابية إما آيديولوجية أو عنصرية أو جهوية وكذلك الحركات المسلحة عنصرية أو جهوية. (حركة تحرير جنوب السودان بجميع فروعها قبل جون قرنق ثم جون قرنق الخ) ثم بقية الحركات الأخرى التي أفلح بعضها في الوصول للعاصمة مثل الغزو المدعوم من ليبيا 1976 وكذلك حركة العدل والمساواة د. خليل إبراهيم 2008. الانقاذ وظفت القبلية والجهوية من أجل استمراريتها لكن الناتج عن ذلك كان مزيداً من التفرق وغياب الحس الوطني.

ولعل التقلبات والانقلابات هي ما أفرزت هذه الهشاشة التي تراها اليوم ؟

واقعنا الحالي فهو واقع مزرِ ، حيث ما تزال البلاد تنشد التعافي من جراء الحرب المفروضة على بلادنا والمدعومة من الدول الكبرى تمويلاً وتسليحاً بل وجنوداً مرتزقة وإعلاماً مأجوراً وعملاء سياسيين وأحزاب خائنة عميلة وغير ذلك. وقد تسبب نظام الإنقاذ بسياساته غير الرشيدة فيما نحن فيه اليوم من هذا الواقع الذي أدى إلى سقوط النظام بثورة شعبية مصنوعة، أعقبتها فوضى وسفك دماء وتحالف هش مؤقت بين العسكريين والمدنيين وشركاء متشاكسين وسط اضطرابات أمنية وفتن قبلية وسفك دماء وتوتر وحالة إحباط شعبي عام. وخلف لنا وطناً ضعيفاً تتهدده الاضطرابات من جميع أطرافه ودعاوى الانفصال أو استقلال الأقاليم شرقاً أو غرباً وحركات مسلحة مدعومة من الخارج وأطراف من البلاد يحتلها الجيران.

تسمي الإنقاذ أو تجلدها وكأنها (الأم) التي ولدت هذه (الذنوب) المجلجلة بينما في الواقع هي مجرد ( حبة) في عقد متهالك الخيط ؟

إن من أكبر الأخطاء التي ارتكبها النظام السابق هي تسليح القبائل فانتهى الأمر بوجود السلاح في أيدي كثير من المواطنين في مقابل أكثر من جهة رسمية تحمل السلاح (قوات مسلحة قوات دعم سريع، حركات مسلحة، قبائل مسلحة).
وقد أدت سياسات نظام الإنقاذ إلى استمرار الحصار الاقتصادي والتقني الذي استمر لأكثر من عقدين من الزمان تخلفت فيهما البلاد عن ركب الحضارة إضافة لعقوبات اقتصادية واقتصاد منهار وتوقف لعجلة الانتاج وفقر وبطالة وتضخم وأزمات طاحنة (وقود خبز كهرباء الخ) وارتفاع جنوني في أسعار السلع الاستهلاكية في مقابل محدودية دخل الفرد وتخلف في إدارة الدولة وانعدام الخدمات وفساد اجتماعي وأخلاقي وتخبط وضعف مستوى الأداء والعاملين بينما شهدت الساحة السياسية عدداً مهولاً من الأحزاب السياسية والتجمعات والعرقيات والطوائف وسط فوضى سياسية كبيرة وتكالب محاور غربية وشرقية لاقتسام كعكة الوطن المضطرب وقد أدى ذلك إلى هجرة العقول والكفاءات وتوقف لعجلة التنمية وانفراط عقد التعليم والصحة والخدمات الأخرى. وبالمقابل أصبحت معظم الأسر غير منتجة تعتمد على ما يرسله أبناؤها المغتربون من تحويلات من دول الخليج التي نضب مَعِينُها.

لقد أفضى هذا الحال إلى قيام ثورة شعبية حفزها التآكل الداخلي لبنية حكم الإنقاذ ؟

حين قامت الثورة الشعبية على نظام الإنقاذ استبدلنا نظاماً قديماً بآخر جديد، ننشد في هذا التحرر من الإستبداد السياسي ربما، لكن الأمور ساءت أكثر حتى اندلعت الحرب فهل يا ترى استبدلنا استبداداً باستبداد؟ وهل أصبحت رؤيتنا للأمور أوضح بعد الثورة ومجيء الرئيس البرهان ومجموعته؟ وهل كانت مضامين ثورتنا ومبرراتها محددة منذ البدء وبرامجها للتغيير محكمة بعد ذهاب النظام السابق؟ وهل أجابت على أسئلة الانتقال والتحول الدستورى من أول يوم؟ أم أنها وقعت في المأزق الذي وقعت فيه جميع الثورات السابقة؟ مأزق تغيير النظام دون تفكير في الخطوة التالية ومأزق الدعوة للديموقراطية أسلوباً للحكم دون التوافق حول مضامين هذه الديموقراطية كأسلوب والأشكال العملية للتعبير عنها، وأى هذه الاشكال هو الأنسب لبلادنا؟ هل هو النموذج الجاهز الموروث للتعبير الديموقراطي؟ وبصفة خاصة هل النموذج الليبرالي النيابي هو أنسب أشكال التعبير في السودان؟ وهل هو أحكم المخرجات وأعدلها؟ وهل يعبر عن أكثرية الشعب؟ أم أنه يعكس رغبات أقليات نافذة، ومصالح مجموعات ضيقة، مثلما كان حادثاً في النظام السابق قبل السقوط؟ وهل لدينا آليات محايدة ومبصرة لإنتخاب واختيار رأس الدولة ومجلس السيادة وغيرهم تمكننا من اختيار الشخص المناسب أم أنها عمياء تؤدي لانتخاب المفضول دون الفاضل؟

وفي كل هذا السجال ، العنيف أو الناعم يغيب المجتمع ويبقى دوما في خانة ( المفعول به) ؟

نحن نفتقر لنظرية اجتماعية ترسم الحدود بين السلطة التنفيذية ومؤسسات المجتمع لصالح الشعب ونفتقر لآليات فطم المجتمع الرضيع دون تعسف وتمكينه من الوفاء بحاجاته دون تعويل على آلية السلطة وهذا لن يتحقق في ظل الأنماط والأوضاع الإقتصادية والسياسية القائمة التي تضع مقاليد السلطة والثروة في أيدي القوات المسلحة أوفي أيدي بعض الأفراد والصفوة والتجار وأصحاب رؤوس الأموال الذين لا يهمهم أمر الفقراء وما نزال نفتقر لخطة محكمة للتوزيع العادل الحصيف للثروة والسلطة، بل إن الخلل كبير جداً في عائدات الذهب والصمغ العربي والنفط والزراعة والمعادن الأخرى وغير ذلك. إن بلادنا موبوءة على الصعيد الاجتماعي بوباء الطائفيات والمذهبيات والعصبيات القبلية والجهوية وهي أمراض تهدم مباديء المساواة والمواطنة، والعدالة والحرية، وتعرقل السعي نحو الإجماع الوطني والوحدة.

يرى البعض أن الجيش ظل يمثل دور الضامن للدولة بحمايتها من الإنزلاق ؟

ما تزال قواتنا المسلحة في بعض جوانب ممارساتها نسخة تقليدية للمدرسة العسكرية الغربية وفي البعض الآخر للمدرسة الشرقية وليس لديها نظريتها الوطنية السودانية للعقيدة العسكرية، ونظم التدريب والترقيات، والعلاقات الرأسية والأفقية التي تعكس ثقافات أهل السودان وتستفيد من النظم الحديثة العالمية للجيوش في الوقت نفسه، بالرغم من مضي مائة عام على تأسيسها. فقواتنا المسلحة ما تزال تابعةً في عقيدتها لآيديولوجية الجيوش النظامية التقليدية للدول الأخرى ولا تعبرعن بيئات وتقاليد المجتمع السوداني وأعرافه وعقائده، بل إن القوات المسلحة – رغم أنها خاضت حروباً كثيرة للحيلولة دون سقوط الدولة السودانية على مدار التاريخ الحديث ونجحت في ذلك وبقيت مدافعة عن أهل السودان – إلا أنها تجاوزت ذلك بأن منحت نفسها الحق في إدارة شؤون البلاد فأصبحت بذلك بقصد أو دون قصد مهدداً للأمن والاستقرار بالاستيلاء على الحكم في كل مرة في مقابل أطماع الأحزاب في الحكم بل كانت في بعض الأوقات ذراعاً تستغلها الأحزاب والطوائف لتدبير الانقلابات على بعضها البعض بدلاً من التداول السلمي للسلطة.
بينما حافظت المؤسسة الأمنية (أجهزة الأمن والمخابرات)
على مستوي أجهزة الأمن والاستخبارات السودانية على هدفها الأول ضمن سلم أولويات الأهداف متمثلاً في حراسة النظام الحاكم على حساب حماية الأمن القومي للبلاد، وفي معظم الأوقات حصنت أعمالها ونشاطها بالأنظمة والقوانين الخاصة التي تجعلها فوق المساءلة فأصبحت بذلك دولة داخل الدولة فلا توجد جهة رقابية تباشر مساءلتها إن هي أخطأت أو تجاوزت فبقيت تتبنى نظرية الأمن القومي المبنية على فكرة المهددات، والتي تسعى لتحقيق غاية أساسية هي حماية الوضع الراهن والنظام الحاكم وفي كثير من الأوقات بقيت أداة للقمع والبطش والفتك بالمواطنين. فهل يتغير هذا الأمر في ظل الدولة الحديثة القادمة؟

من الملاحظ أن السودان لم ينل حظا كافيا ، لا من جغرافيتة ولا من موقعه ؟

الممالك السودانية منذ العهد السناري قامت على التجارة الداخلية والخارجية التي هي حياة البلاد ومصدر بقائها ونمائها.
على العهد السناري طاف بالسودان رجل من الأوروبيين فكتب عبارة موجزة الكلمات واسعة الدلالات ؛ إذ قال ” This is a country which dies & lives on trade” يعني: هذا بلد موته وحياته في التجارة. ولقد يخطئ خطأ جسيماً في تفسيره من يهمل هذا الجانب في تقويم مسار الوقائع والأحداث. وفي رصد تطور السودان ماضيه وحاضره ومستقبله. إن فهم شبكة الطرق هو الأساس في فهم الجغرافية السياسية. ذلك أن طرق التجارة بنيت على أساس الخارطة الاقتصادية العادلة التي تعطي كل إقليم حظاً في الصادر والوارد من تجارة السودان الخارجية.
الحاجة لانتظام شبكة الطرق الداخلية ومن ثم اتصالها بالشبكة العالمية عبر منافذ معلومة من البر والبحر، هي دائماً وراء قناعة السلطات الإقليمية والولائية بالاتحاد الفدرالي وانصياعها للحاكم وانتظامها في سلطة واحدة. أسباب الكسب التجاري هي من أهم ضمانات السلام والأمن.
وليس السلطان وحده هو القيم على ضمانة السلام والأمن والعدالة، بل المؤسسة التربوية والدينية والتعليمية الموحدة للقطر بكامله تضرب بسهم وافر في جميع ذلك حتى إنه في عهد السلطنة الزرقاء استغنت كل بلدة فيها رئاسة للمشيخة العلمية عن أن يكون للسلطان نائب فيها. ذلك ما كان عليه الأمر في بلدان مثل: الدامر، والدبة، والمندرة، وولد حسونة. وقري والحلفاية والعيلفون أيام السلطنة الزرقاء.
الممالك لا تقوم إلا على الاقتصاد المتمثل في التجارة واستثمار ثروات الأرض. وبلادنا هي من أغنى بلاد العالم من حيث الثروات إلا أن اختلال كفة التجارة في الميزان مقابل كفة الثروات أدخل الأطماع الخارجية لاستغلال ثرواتنا وبذلك فإن التاريخ يعيد نفسه من حيث الأطماع الخارجية في الذهب (للاقتصاد والمال) والرجال (للحرب والقتال).
واليوم على صعيد النظام الإقتصادي، ما زال اقتصادنا يتخبط بين أنموذج السوق الرأسمالي التنافسي الحر في اقتصاد تتفاوت فيه الدخول، وما زلنا نقوم بتعزيز التفاوت الحاصل ابتداءً، ليزداد الأغنياء غنىً والفقراء فقرا وتتركز الثروة في أيدي القلة وذلك يؤدي حتماً إلى التأثير على النظام السياسي وعلى منظومة صناعة القرار بأكملها فتنحسر قدرة الأغلبية الجماهيرية في التأثير على الواقع السياسي للبلاد مثلما هو معلوم الآن من انفراد المؤسسة العسكرية بحكم البلاد والمجيء بحكومة مدنية مغلولة اليدين والأقدام؟ ولا يتوقع نقل مقاليد السلطة والثروة ومقدرات المجتمع من أيدى القلة إلى الأكثرية ولا من أيدي القوات المسلحة إلى يد الشعب وقياداته المنتخبة.

الإنسان السوداني بوصفه محل النهضة و مركز الإقلاع الحضاري المأمول ، كيف نعيد ترميمه وإعادة صفّه ضمن مسار مستدام متضامن له ما بعده؟

ظل الإنسان السوداني على مدار العصر الحديث ضحية للحروب المستمرة التي أضعفت الدولة السودانية ودمرت الاقتصاد وأفقرت الشعب فانتشر الجهل والأمية والأمراض.
لقد استمرت الحروب على بلادنا منذ القديم لم تتوقف حتى أيام السلطنة الزرقاء ومجيء الأتراك والإنجليز وما بعد ذلك وحتى في عهد عبود وعهد النميري وعهد البشير ومن بعده. استمرت الحرب في السودان منذ ما قبل خروج الإنجليز وما تزال مستمرة حتى اليوم بعد 70 سنة من القتال، فالانسان السوداني أنهكته الصراعات والخلافات والمؤامرات ورغم ذلك فالإنسان السوداني يمتاز بصفة كونه محارب شديد المراس، كثير الدواس. ذكرت التوراة ذلك في سفر اشعياء 18 (اذْهَبُوا أَيُّهَا الرُّسُلُ السَّرِيعُونَ إِلَى أُمَّةٍ طَوِيلَةٍ وَجَرْدَاءَ، إِلَى شَعْبٍ مَخُوفٍ مُنْذُ كَانَ فَصَاعِدًا، أُمَّةِ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ وَدَوْسٍ، قَدْ خَرَقَتِ الأَنْهَارُ أَرْضَهَا. )
الإنجليز أدركوا بأس مقاتلي الشرق (الهدندوي) فزي وزي الذي كسر المربع الإنجليزي وأدركوا بأس مقاتلي الغرب الذين هزموهم في شيكان وغيرها من المواقع. واليوم أدرك المرتزقة والإرهابيون كيف أن السوداني مقاتل شديد البأس لا يقبل الضيم.
لقد شغلت الحروب المستمرة إنسان السودان عن أن ينهض ويتقدم إلا أن الأمل يعود لأهل السودان بعد كل حرب من الحروب في بدء دورة جديدة نحو نهضة حديثة.

إذًا كيف يعاد ترميمه ؟

لابد من البدء بالبناء القاعدي للحكم وذلك ضروري لتنظيم قدرات وطاقات هذا الشعب وفق قيادات تبدأ بلجان الأحياء وتنتهي بالمجلس الوطني (البرلمان) ولا بد أن يمتلك السودان المقدرات العلمية والتقانية بما يمكنه من تحقيق التنمية الشاملة. ولا بد من التوزيع العادل للسلطة والثروة، بما يعزز الوحدة الوطنية ويرسي دعائم العدل ويحقق السلام في كافة ربوع السودان. ولا بد من إرساء دعائم التعايش المجتمعي والتكافل من أجل بناء حياة عصرية متمدنة، وذلك بتنمية روح المبادرة، وإحكام التخطيط، وتجويد التنفيذ، من خلال بناء مؤسسات فاعلة بأنظمة حديثة وقدرات بشرية مؤهلة ومدربة وهياكل إدارية محكمة، ولا بد من إعادة توزيع الثروات المادية وغير المادية لصالح المستضعفين والمحرومين، مع القضاء على الفقر والعطالة، ومع النهوض بالمناطق المتخلفة وإحداث التنمية المتوازنة، لنتمكن من النهوض الشامل بالوطن كله.ولا بد من دعم الإستثمار في المشروعات الإنتاجية الصغيرة والوسيطة، والملكيات التعاونية، مثل المزارع الجماعية ومزارع الأسر المنتجة وملكية الأسرة ومنشآت الإكتتاب العام، وسد الفجوة بين العمل ورأس المال، وتشجيع صيغ الملكية الشعبية الخاصة، والملكية الفردية في جميع القطاعات الإقتصادية.ولابد من صيانة الحقوق الإنسانية، وتأمين الحاجات الأساسية المعنوية والإجتماعية والمادية لكل أبناء الشعب السوداني وتفجير طاقات الشباب وتوجيهها نحو البناء والإعمار مع القضاء على العطالة والتبطل.

كتطبيق عملي للتعافي الاقتصادي ، فقد ذكر تقرير التركيز القُطْري _ السودان 2025 الذي أطلقته مجموعة البنك الإفريقي للتنمية ، أن السودان يحتاج لسد فجوة تمويلية قدرها 24 مليار دولار سنويا على مدى سنوات ، برأيك كيف يمكن سد هذه الفجوة بالنظر إلى المشهد المحلي المنكمش والخارجي المتربص والمتكالب ؟

تملك بلادنا ثروات هائلة لو أحسن استغلالها بطريقة صحيحة ليس فقط لسد الفجوة التمويلية بل لنقل البلاد كلها إلى مرحلة أخرى من مراحل الدول الحديثة، بل إنني أكاد أجزم أن قطاعاً واحداً فقط من قطاعات الاقتصاد كفيل بذلك وأعني القطاع الزراعي الذي هو قطاع إنتاج الغذاء وتحقيق الأمن الغذائي والاستقرار (وهذا أهم مطلوبات ما بعد الحرب)، وهو القطاع الأكثير تشغيلاً واستيعابا لنحو 60% من السكان الذين تضرروا وهو بذلك يؤدي لتحريك قطاعات كبيرة من السكان ويمتد أثره على القطاعات الاقتصادية الأخرى وهو لا يحتاج لموارد مالية كبيرة لإعماره خلال المرحلة القادمة إضافة إلى أن دورة رأس المال فيه قصيرة وسريعة فالبدء بهذا القطاع يسهم في حل المشكلات الكبرى المتعلقة بتخفيف حدة الفقر والنزاعات ويزيد من استقرار المجتمعات وصيانة الموارد الطبيعية بل إن تحقيق أهداف هذا القطاع يسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة والأمن الغذائي والتطور الزراعي والإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية فهو القطاع الأكثر جذباً للمانحين والممولين، وفي العالم اليوم طلب عال على المنتجات والسلع الزراعية والحيوانية وذلك يؤمن لنا على الدوام أسواقاً معقولة ومضمونة للمنتجات الزراعية والحيوانية في مقابل تزايد معدلات السكان والتغير المناخي في العالم.
إن القطاع الزراعي وحده يسهم بحوالي 36% من الناتج القومي الإجمالي وحوالي 90% من حجم الصادرات غير البترولية و75% من القطاعات الإنتاجية وأكثر من 60% من القوى العاملة ويوفر حوالي 90% من الاحتياجات الغذائية ومعلوم أن بلادنا تتميز بوفرة الموارد الزراعية وتنوعها فالمساحات القابلة للزراعة بالسودان تساوي 10% من المساحات الزراعية في العالم أجمعه وكذلك المياه المتوفرة من الأمطار تبلغ 400 مليار متر مكعب وحوالي 20 مليار متر مكعب من مياه الأنهار ونحو 10 مليار متر مكعب من المياه الجوفية إضافة إلى أن مساحة السودان الواسعة تتضمن خمس نطاقات مناخية وتتمتع بلادنا بسطوع شمسها طوال العام في أغلب مساحاتها ونمتلك ثروة غابية ضخمة بالإضافة لحزام أشجار الصمغ العربي التي تغطي أكثر من نصف مليون فدان
إننا نستطيع أن نعيد إعمار السودان فقط من عائدات الثروة الحيوانية فنحن نمتلك 110 مليون راس من الماشية والضأن والإبل.
ولهذا فنحن لا نخشى من مثل هذه الفجوات لكننا نخاف من ضعف الإدارة لهذه الموارد .

الإعلام هذا البطل المنسي أو المُتغَافل عنه حكوميا في هذه الحرب، لو علموا أثره وخطره لما استهزءوا به؟

يعتبر الإعلام أحد أهم أسلحة الأمن القومي المستدام للدول وللسودان خاصة خلال المرحلة الحالية إذ يجب تفعيله ليتركز دوره في الالتزام بحماية ثوابت الأمة وبالبرامج الوقائية ضد الخطط الضارة بالبلاد والالتزام بالدفاع عن العقيدة الأمنية وحمايتها بالنفس والنفيس وكذلك التعاون والتكامل مع الأجهزة الأمنية والعدلية ودعمها وسد الثغرات التي تواجهها والالتزام بالتقارب وحماية المصالح مع الدول الصديقة والتعاون مع الأجهزة الإعلامية العالمية المماثلة، ولكن بشرط عدم التعارض مع أهداف وثوابت الأمة. وكذلك يجب أن يقوم بدعم استقرار العقيدة الأمنية وإبراز حجم الدمار الذي قامت به المليشيات الإرهابية وتجريمها مع استقطاب الرأي العام على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية لصالح قضايا الأمن القومي المستدام في السودان.
إننا نحتاج خلال المرحلة القادمة إلى مواجهة التسيب والتخبط المتمثل في عدم تحديد أهداف وثوابت ووسائل واضحة للعملية الإعلامية وللخطاب الإعلامي وهي مرحلة قد تتخللها مصالح أجنبية تؤثر على العقيدة الأمنية نفسها. كما نحتاج إلى تحييد التدخلات الأجنبية والتوجيهات الخارجية من الدول الأخرى ذات المصالح في بلادنا وكذلك الدول المانحة للقروض، وحكومات العالم الخفية التي تديرها الماسونية وأيضا المنظمات والمؤسسات الإعلامية. إننا نحتاج إلى توحيد مصادر ومصطلحات الخطاب الإعلامي وجهة إنتاجه ومتابعته ومواجهة خطط اختراقات العدو المتمثلة في التركيز المتواصل لمتجهات إعادة هيكلة الجيش والأمن بهدف تغيير أو هزيمة العقيدة الأمنية والعسكرية. كما نحتاج تقوية ودعم المؤسسات الإعلامية الرسمية العسكرية والشرطية والأمنية كجزء من منظومة الأداء الإعلامي للتعامل مع مختلف التحديات: الداخلية والخارجية و(المختلطة)، ولو في حدها الأدنى.
إننا نحتاج لتوحيد وتوجيه الرؤية الإعلامية في حالتي الحرب والسلم واستدامة العمل وفق منهجية ثابتة عبر وضعها وإنفاذها ومراقبتها وتطويرها مع الشفافية والالتزام في كافة مؤسسات القيادة والتعبير عن ذلك من خلال الخطاب الإعلامي وتوحيد الخطاب الإعلامي ومصطلحاته ومؤسساته والدفع في إنجاح استراتيجيته ونحتاج دور الإعلام في إدارة الأزمات الإعلامية، والمالية والإدارية والاستراتيجية.
ما تزال تنقصنا غرف عمليات إعلامية مركزية لإدارة العمل الإعلامي وتوظيف كافة المعينات مع التنسيق وضرورة توسيع التعاون مع والاستفادة من الإعلاميين والصحفيين وكل الأقلام الوطنية. وتمكين الغرفة المركزية من رسم سياسات كيفية حفز هؤلاء الإعلاميين وتوظيف قدراتهم ومنصاتهم والمنابر الإعلامية الموجهة للمتلقي المحلي والإقليمي والدولي. ولا بد أن تكون لدينا واجهات إعلامية قوية ناطقة بجميع اللغات وتعمل بالصورة التي تخدم الإعلام وتصب في مصلحة الأمن القومي وتخدم القضايا الوطنية.

أفرزت حرب احتلال السودان بمخلب المليشيا عن طموح رغائبي لحميدتي يمكن وصفه بالعاطفة القبلية المطرطشة ، يسعى إلى (دقلنة) الدولة السودانية؟

أنا لا ألوم حميدتي ومن وقفوا وراءه من المليشيات الإرهابية ولا الأحزاب الخائنة العميلة لكونهم طمعوا في ثروة غفل عنها أهلها وفي مال سائب (فالمال السائب يعلم السرقة) بقدر ما ألوم المسؤولين في الدولة السودانية في تغييب مؤسسات التخطيط الاستراتيجي التي هي العقل الحارس والواعي الذي يتدبر أمور استراتيجيات وسياسات إدارة الدولة السودانية، بالتخطيط السليم والتحذير من المخاطر والمهددات، فقد أدى غياب هذه المؤسسات إلى أن ينفتح الباب على مصراعيه لكل طامع في الحكم أو السلطة أو الثروة. وفي ظني أن آل دقلو هم صناعة غير محسوبة العواقب مثل دمل تمدد في جسد الأمة السودانية وغذته سموم الطامعين والخونة والدول المتربصة بالبلاد فأوصلونا إلى ما نحن عليه اليوم. إنني أخشى أن أسباب الحرب التي كانت المليشيا مخلباً لها ما تزال قائمة . فلم تسد الثغرات التي دخلوا علينا من خلالها ولم يتم تدارك الأخطاء التي وقعت فيها الحكومات .

ألا تزال تخشى بعد كل هذا المشوار ؟

قراءتي للأحداث تقول إن هذه الحرب لن تتوقف أبداً وسوف تستمر إلى ما شاء الله ما دمنا قد أدخلنا الطوابير والجواسيس والخونة عبر حصان طروادة السوداني فتغلغلوا في مؤسسات الدولة ومصادر مواردها وأسباب قوتها ومؤسساتها المالية والاقتصادية والإدارية فحدودنا مفتوحة وعلاقاتنا مع دول الجوار التي سمحت للمليشيات باستخدام أرضها ما تزال علاقات هشة بدون استراتيجيات محكمة لقضايا علاقاتنا الخارجية مع تلك الدول، إلا أن تتم مراجعة قضايا الأمن القومي وترتيب أولويات المهددات والأخطار وكنس جميع مظاهر الخيانة والفساد والعمالة والارتزاق.

هناك حديث صريح أرجو أن يبلغ مكتب الدكتور كامل إدريس عن :
_ فساد مالي وإداري يتم عبره اقتسام الثروة أو ربما اختطافها بواسطة دولة عميقة داخل الدولة
_ حكومة هشة تتنازعها قبليات ولوبيات تبتعد مسافة عن الحوكمة والرقمنة

ما تزال مؤسسات الدولة تضم في إداراتها العملاء والمفسدين والطوابير والجواسيس والخونة، وهذا يحتم على الحكومة البدء بتفعيل قوانين الثراء الحرام واعتماد الشفافية وتفعيل أجهزة الرقابة والمراجعة والمساءلة ومراجعة ملفات القوى العاملة وأنظمة الحوكمة وضبط الأداء ومراقبة الفساد وإحلال الأنظمة اليدوية بالأنظمة الإلكترونية وبرامج التحول الرقمي الشامل وغير ذلك من سياسات وبرامج الإصلاح الإداري الشامل.
إن تمكين السلطة المدنية في البلاد بصلاحيات كاملة هو ضمانة الانطلاق نحو التعافي لبناء سودان جديد حديث ناهض ومتعافي لا مكان فيه للمحاباة أو المحاصصة أو غيرها من الأمراض السابقة التي قعدت ببلادنا عن ركب الحضارة.
نأمل أن يتمكن السيد رئيس مجلس الوزراء من الاستفادة من خبرات التكنوقراط السودانيين بفاعلية من أجل إعادة إعمار الإنسان السوداني .

يرى مراقبون أن الحكومات العسكرية المتعاقبة، مفترًى عليها وتمت شيطنتها والحط من قدرات رجالها على نحو ما، بينما أسوأ منها نظيرات مدنية لم تعرف كيف (تهذب أطماعها) بل حمل كتابها أسوأ التوصيفات لجهة النزاهة والسمعة، فمن جناين الميرغني إلى تعويضات المهدي إلى أثرياء الوطني وخلالهما (مستر 10 بيرسنت) ؟

ظلت بلادنا مثل الكرة في ملعب السياسة والحكم يتداولها فريقان خصمان هما المؤسسة العسكرية والأحزاب السياسية المدنية وقد دفعت أثماناً باهظة نتيجة لهذا الصراع المستمر يتمثل في ضعف مؤسسات الدولة وتدني الأداء وفي الفساد والتعدي على الممتلكات العامة وغير ذلك الكثير. وفي ظني أن العبث بدستور البلاد تعطيلاً وإلغاء وتعدياً هو الذي جرأ المؤسستين العسكرية والمدنية على الاستيلاء على السلطة والعبث بمقدرات الأمة السودانية كما أن ضعف مؤسسات الدولة وغياب الرقابة الإدارية وعدم تفعيل القوانين الرادعة وملاحقة المفسدين جعل كثيراً من لصوص المال العام يفلتون بجرائمهم فمن أمن العقوبة أساء الأدب.

د. حمدوك هل يمكنه الاعتذار عن الغفلة أو ربما القسوة التي ضرب بها سمعته أو رمزيته كمنقذ أو مؤسس لثورة تبين لاحقا أنها اختطفت بليل؟

هذا أمر تجاوزته الأحداث وقد مرت مياه كثيرة من تحت الجسر فالسودان يشهد تعيين رئيس وزراء جديد وبداية عهد جديد من بعد الحرب، ولا أظن أن النظر إلى الماضي سيفيدنا كثيراً إلا في الاعتبار من الأخطاء والتجارب والاخفاقات الماضية.

ماذا لو جاءتنا الإمارات بي خشم الباب وسألتنا حاجتها بإحسان؟

لن تفعل! ولو فعلت فالشعب لن يقبل بعد كل هذا الذي حدث وهو ما يزال يلعق جراحه ويندب شهداءه. إن على الحكومات وولي الأمر أن يعي هذا جيداً لكونه منزلق خطر يخفي ما وراءه من غضبة الشعوب.

يسود تفاؤل عميق وعريض بأن ثمة أمل في تعافٍ وشيك لهذا السودان ينهض فيه من وكسته بعد الحرب التي تبدو كمن حررت طاقات كانت مخبوءة. أشير هنا إلى تثمير رأس المال البشري الوطني المجرب والمدرب؟

لا أريد أن أتفاءل كثيراً، وفي الوقت نفسه لا أريد أن يحبط الناس فيما لو قدر للبلاد ألا تتعافى قريباً ولديَّ أسبابي التي أوجزها في أننا ما زلنا نحتاج إلى أن يكون التغيير في البلاد غير تقليدي وبواسطة قيادات غير تقليدية تكون قد أعدت أجوبة واضحة لقضايا الأمن القومي والهوية والسياسة والاجتماع والاقتصاد وعلاقات البلاد الخارجية والتزامات بلادنا وموقع السودان من خارطة افريقيا والعالم العربي ومن خارطة القوى الإقليمية والدولية. هناك أسئلة كثيرة تحتاج لإجابات واضحة:
هل لدينا استراتيجية واضحة لجمع الصف ووحدة الكلمة وللسلم المجتمعي والتصالح الداخلي واحتواء الأزمات ودرء مخاطر الانفصال والتقسيم والتشرذم؟
هل نحن مستعدون لمواجهة التحدي في إدارة الحوار الداخلي حول قضايا الهوية، والتعددية الدينية والعرقية، وتوزيع الثروة والسلطة، وشكل النظام السياسي الذي يتواءم مع المكونات الثقافية والإجتماعية للسودان ويضمن توزيع السلطة بالشكل المنشود، والنظام الإقتصادى الذي يتوافق مع مكونات المجتمع السوداني الفكرية ومعطياته الثقافية، ويضمن التوزيع العادل للثروة؟
هل أعددنا أجوبة لقضايا علاقاتنا الخارجية والتزامات بلادنا؟ وهل سنحترم المعاهدات والإتفاقات المحلية أو الدولية التي وقعت في غياب السيادة وغفلة الشعوب؟ وهل سنساند الأنظمة الدولية الظالمة والعلاقات المختلة في مسرح العلاقات الدولية؟ ومع أي القوى والموازين سنقف؟ أم أن لدينا استراتيجيتنا المحكمة للعلاقات الخارجية؟
أين مكاننا في العالم الحديث المتشابك والمتواصل من جهة، والمتصارع من جهةٍ أخرى وهل نحن مستعدون لإعلاء المباديء وعدم إهمال المصالح؟ هل لدينا أنموذج للعلاقات الدولية يرعى حرية الأفراد والجماعات، ويصون حقوق الإنسان والمجتمعات، ويشيع العدل والمساواة، وينبذ إزدواجية المعايير ويأخذ بأيدي المستضعفين، مستهديا بقيمة وحدة الإنسان في الأصل والمصير؟

كيف يمكن الاستفادة من تجارب دول عاشت ظروفنا نفسها كما في رواندا أو ماليزيا، لتطويرها لصالح سودان جديد؟

بصورة عامة كل دولة لديها مقومات نهضتها التي تميزها عن بقية الدول وفي ظني أن دولة السودان اجتمعت لها مقومات بناء الدولة الحديثة كما لم تجتمع لغيرها فلدينا الثروات المتعددة والإنسان والأرض والتجارب السابقة ولدينا إنسان السودان فالسودان دولة شابة ذلك أن نسبة الشباب فيه أكبر من نسب الشباب في عدد كبير من دول العالم فالمستقبل أمامنا. والسودانيون قد اتحدوا وتجدد لديهم الأمل من بعد الحرب في بناء دولة قوية ناهضة والآن هي فرصتنا للاستفادة من طاقات الشباب وخبرات أبناء السودان خاصة الذين عملوا في دول الاغتراب. هذه سانحة لن تتكرر قريباً وعلينا ألا نضيعها.

برأيك، ما حظوظ قيام دولة ثانية في إقليم دارفور تمهد لانقسامات أخرى قيد التخلق؟

إن لم نسرع الخطى لحسم التمرد وطرد المليشيات الإرهابية والمرتزقة من بلادنا وتأمين حدودنا وامتلاك مصادر تسليحنا وكسب الرأي العام الداخلي والخارجي لصفنا فإن حظوظ تقسيم السودان ستبقى شاخصة، فالاحتقان ما يزال قائماً وآثار الحرب لم تمح والخراب والدمار الذي حاق ببلادنا يتطلب الحكمة في إعادة الإعمار.
إننا نحتاج لإنشاء دولة قوية ذات قدرات دفاعية متطورة لحماية أمن الوطن، والدفاع عن مقدراته ومكتسباته وفق رؤية جامعة موحدة لأهل السودان، توجه فيها طاقات الشباب وخبرات المختصين وثروات البلاد نحو بلوغ الغايات وتحقيق التنمية الوطنية الشاملة التي يطمح إليها كل سوداني. لا بد من تحقيق الأمن المجتمعي والغذائي ولا بد من العمل الفوري على الاستقرار السياسي وإرساء السلام في ربوع الوطن وتحقيق وحدة الوطن والمجتمع وفق نظام سياسي يرتضيه الجميع. وهنا لابد من مواجهة ما يسمى بقضايا المركز والهامش ودعوات أن الهامش مهمل الخ، وذلك بمعالجة قضايا السلطة والثروة ولا بد من العمل على استقلال القرار السياسي وتحرره من التبعية لأي جهة داخلية أو خارجية، بل وتوظيفه في خدمة مصالح البلاد، وتفعيل دور السودان في الحياد وعدم الانحياز وعدم التدخل في شؤون الآخرين وإقامة علاقات سياسية على كافة المحاور الإقليمية والدولية تراعي مصالح الوطن والأعراف الدولية. ولا بد للمواطن السوداني أن يتمكن من تطوير قدرات الوطن الاقتصادية وتنمية ثرواته والمحافظة عليها وتوجيهها لإنشاء البنية التحتية ولمصلحة المواطن السوداني، وبذلك نقطع الطريق أو نغلق الباب أمام من يسعون للانقسام وزرع الفتن بين مقومات المجتمع السوداني .