إبداع
عمر فضل الله
<<أطياف>> تندهش من دبى
صنع من العلاقة الجدلية بين الوهم والحقيقة وبين الخيال والواقع عالماً جديدا لا يمكن فهمه أو استيعابه إلا بالسفر عبر التاريخ ومعايشة حضارات مضت في بقاع مختلفة وصولاً إلى دبى رمز الحضارة الحديثة. الماضي بالنسبة إلى الروائي السوداني الدكتور عمر فضل الله نافذة يطل منها على قرائه ليروي لهم حكايات من نسج الخيال وتتأسس على الواقع. “الشروق” التقته وحاورته ولامست أفكاره من خلال مؤلفاته.

غادة الحوراني

—————————————————————————

==صدرت لك منذ أٌقل من شهر رواية “أطياف الكون الآخر”، فما هو الكون الآخر الذي سعيت أن تعيش فيه مع قرائك من خلال هذه الرواية؟

لو أخبرتكم بحقيقة الكون الآخر لحبط عملي في الرواية!! ولأفسدت روعة المفاجأة.. ولكن دعوني أقدم لكم حافزاً لقراءتها فأعقد مقارنة وهمية بين الكون الآخر وكوننا هذا الذي هو عالم نبنيه في عقولنا بل هو ملايين العوالم (التي توجد فيها مخلوقات أخرى مثلنا أو تختلف عنا) وكلها أو بعضها موجود في عقل كل واحد منا، وكل منها عالم مختلف عما عند الآخر يتسع أو يضيق باتساع وضيق خيال كل واحد منا. ولكنها تظل وهماً لا نراه إلا إن سمحنا لعقولنا أن تصدق بأنه حقيقي وعندها يتجلى لنا في الصور التي بنيت في عقولنا. فالكون الحالي هو عالم من الوهم الممزوج بالحقيقة ويبقى هناك حاجز شفاف بينهما. رواية (أطياف الكون الآخر) تنقل عالم الخيال والوهم في عقولنا إلى عالم الواقع في حياتنا ليصبح الواقع خيالاً أو تنقل واقعنا إلى عالم الخيال ليصبح الخيال واقعاً – لافرق- فهو كله عالم موجود في الحقيقة إن صدقنا، وهو غير موجود إن اخترنا ذلك.

==استمددت مجريات الرواية من أساطير ومصادر تاريخية، كيف عملت على توليف الرواية وأي هدف من وراء العودة إلى التاريخ في روايتك؟

لو اعتبرنا رواية (أطياف الكون الآخر) رحلة زمانية ممتدة منذ بدء الحياة على كوكب الأرض فإن الأساطير والتاريخ يكونان مصدراً لا غنى عنه لإدارة عقل القاريء على عجلة الزمان، ولو اعتبرناها مقارنة بين الماضي والحاضر فالماضي تاريخ والحاضر هو العقل الذي يقرأ ذلك التاريخ. ولو اعتبرناها قصة فالقصة تحكي عن أحداث (ماضية) وقعت وانتهت والكاتب حين يعود إلى التاريخ فإنه يربط الشخوص والأحداث بجذور عميقة تضفي عليها السحر والجاذبية. ولكن الرواية لم تقف عند سرد التاريخ بل تجاوزته إلى الواقع الحديث والمستقبل أيضا!.

كيف خدمت المراوحة بين الواقع والخيال في الرواية تنقل الأحداث بين حضارات مختلفة وصولاً إلى دبي في زمن الحداثة؟

الكاتب يحس أنه نجح في إيصال فكرته للقاريء حينما يجعل القاريء محتاراً لا يستطيع أن يفرق بين الواقع والخيال فيما يقرأ سطور الرواية ويتنقل بين صفحاتها، فيظل يتابع أحداث الرواية في لهفة أينما ذهبت وحيثما حطت رحالها. يحزم حقائبه ويسافر مع بطل الرواية متنقلاً بين العراق والشام ومصر والسودان وبلاد الخليج. الرواية تقول كلاماً كثيراً بين السطور، يفهمه القاريء الفطن، وتنقل رسائل من خلال السرد، وتعالج قضايا إنسانية وتتناول الجوانب النفسية والعاطفية التي يتميز بها الإنسان عن الأطياف مثلما تطرح قضايا دينية وسياسية قديمة ومعاصرة متكررة ومتجددة في حياة الناس.

== اخترت أن تحط الأطياف في دبي فأي دلالة سعيت إليها من خلال هذه المحطة؟

الطرافة والمفارقة تظهر في حياة (طيف التجلي) الذي عاش في العصور القديمة ليجد نفسه (فجأة) في العصر الحديث حيث التقدم الحضاري والتقني.. ومدينة “دبى” تمثل رمزاً للحضارة الحديثة بلا ريب.. وطيف التجلي يضطر للمقارنة بينها وبين وادي عبقر حتى يستوعب الصدمة الحضارية التي أصيب بها! ويقارن بينها وبين نمط الحياة في زمن سيدنا سليمان أو في عصور الفراعنة. تخيل انك كنت تعيش في العصور القديمة وانتقلت للعصر الحديث ووجدت نفسك (فجأة) في دبي؟ ياللدهشة!!

==من التاريخ استوحيت أيضا رواية “ترجمان الملك”، والتي اعتبرت من القصص الأدبية التي تخدم السيرة النبوية، وقد اعتمدت فيها أيضا المراوحة ما بين الواقع والخيال، فإلى أي مدى جاء هذا التنقل مساهماً في نقل تلك الحقبة؟

(ترجمان الملك) رواية واقعية كتبت عن منطقة سوبا القديمة ودولة علوة في قلب الحبشة القديمة (بلاد السودان). وهي منطقة أهملها التاريخ ونسيها الناس فكتبت الرواية باعتماد الخيال لرواية التاريخ فهي خيالية إن اخترت قراءتها للمتعة والجمال الفني والأدبي غير أن ما ورد فيها هو حقائق تاريخية وقعت بالفعل. وهي غنية بالمعلومات التاريخية وشخوص الرواية يؤدون أدواراً تاريخية حقيقية وفي نفس الوقت يتلقفها القاريء كقصة ممتعة. واعتماد الخيال لرواية التاريخ يمنح الكاتب الحرية في تقديم صورة جديدة عن تلك الحقبة وأولئك الشخوص. فحين تقرأ الرواية تحس أنك أحد سكان مدينة سوبا, لا تحدك الأسوار والأبواب, تارة تدخل قصر الملك والكنيسة, وتارة أخرى تعبر النيل لتزور الساحرة سيمونة, أوتجالس الحكيم دلمار وحفيده سيسي وتارة أخرى تذوق طعم الذل في رحلة اختطاف الأمير الشاب (أصحمة) ليباع عبداً وتارة تجالس المهاجرين من صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم وتستشعر صدقهم وثباتهم على الإيمان وتقف معهم في صف الصلاة كما فعل سيسي وأمه وكما فعل دلمار ترجمان الملك. والرواية تجعلك تتعرف على الصحابة المهاجرين كما لم تعرفهم من قبل. إن كنت تظن أنك تعرف الزبير بن العوام أو عثمان بن مظعون أو بقية الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة فاقرأ الرواية لأنك سوف تكتشف أنك لم تكن تعرفهم قط. وإن كنت تظن أنك تعرف قصة الهجرة إلى الحبشة فسوف تكتشف أنك لم تكن تعرفها من قبل.

==ذكر الناقد الدكتور عادل عبد العزيزأن رواية “ترجمان الملك” لو وجدت مخرجاً جيداً لصنع منها فيلماً عظيما، فهل ستسعى نحو هذا المشروع؟ وأي تصور لك لدخول مثل هذه الروايات إلى السينما العربية؟

ذكر بعض النقاد أن (ترجمان الملك) تماثل رواية (شفرة دافنشي) للكاتب (دان براون) والتي أنتج منها فيلم سينمائي عظيم. وأتوقع أن يحدث هذا الأمر لرواية (ترجمان الملك) أيضاً فور صدور الترجمة الإنجليزية للرواية وحين يقرأها المخرجون والمنتجون العالميون، فقد تعودنا أن الأفلام السينمائية العظيمة تكون ناطقة بالإنجليزية في معظمها ثم تترجم للغات الأخرى. ولو تقدمت أية جهة لتحويل هذا العمل إلى السينما العربية فلن أتردد في الموافقة حيث أن العالم العربي في حاجة إلى مثل هذه الأعمال التي تجمع بين التراث النبيل والتاريخ الأصيل والخيال الجميل بالإضافة إلى التعريف ببقعة مجهولة في عالمنا. وكان المؤتمر الدولي الأول للسيرة النبوية الشريفة المنعقد في العام الماضي وشاركت فيه ست وعشرون دولة (من بينها مصر والمملكة العربية السعودية والعراق وفلسطين والجزائر والمغرب وليبيا وتركيا وماليزيا وأمريكا وكندا والنيجر وبنين وبنجلاديش والصومال والسودان) قد أوصى بـ: ((أن تتبنى مؤسسة إعلامية تحويل رواية “ترجمان الملك” إلى عمل روائي سينمائي، فالرواية نواة جيّدة لإنتاج فني خلاّب!)). وقد قدم ضمن أوراق المؤتمر بحث بعنوان القصة الأدبية في خدمة السيرة النبوية رواية “ترجمان الملك” مثالا تناول فيه الأستاذ الدكتور عثمان أبوزيد عثمان المستشار في رابطة العالم الإسلامي الرواية بالتحليل والنقد.

== أعمالك الروائية تجمع ما بين الأدب والسياسة، فهل ترى أن السياسة جوهر أساسي في الحبكة الأدبية وجزء لا يتجزأ من محاكاة واقع ما؟

أنا لا أتعمد أن أكتب مباشرة في السياسة ولم تكن السياسة هي لب رواياتي الأدبية ولكنها تخفي حقائقها بين سطور الأعمال الروائية التي تحترم عقل القاريء الحصيف إن اختار أن يقرأ الرواية قراءة عميقة فأنت حين تكتب الرواية تحكي الأحداث والوقائع بطريقة السرد الأدبي الممتع وتقدم الواقع في ثوب جميل وتترك لفطنة القاريء أن يفهم مابين السطور. ولم تكن السياسة في أي يوم من الأيام بمنأى عن الأدب ولم يكن الأدب بمنأى عن واقع حياة الناس.

==”حرب المياه على ضفاف النيل.. حلم اسرائيلي يتحقق” عنوان أحد مؤلفاتك، ألم تر أن تناول مثل هذه القضية المهمة على شكل رواية ستجعل القارئ أكثر قدرة على تصورها وفهم حقيقة الصراع؟

كتاب “حرب المياه” دراسة استراتيجية تتناول مشكلة مياه النيل بالتحليل وقضية “سد النهضة” على وجه الخصوص، وتهدف إلى توعية القاريء العربي والمحلل الاستراتيجي ومتخذ القرار بما يدور في الساحة هذه الأيام من تطورات خطيرة في ملف مياه النيل والتدخل الاسرائيلي الذي يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي لمنطقة حوض النيل. وذلك أن إسرائيل قد تدخلت بشكل سافر للضغط على النظامين المصري والسوداني عبر تحريض السلطات الإثيوبية لمراجعة حصص توزيع المياه التي تقررت لبلدان حوض النيل والزعم بكونها ليست عادلة وأن إسرائيل كفيلة أن تقدم التقنية التي تملكها من ترويض مجرى النيل وتوجيهه وفقًا لمصالحها ومن أجل ذلك تدفقت المساعدات الإسرائيلية لإثيوبيا لإقامة السدود والمنشآت التي تمكنها من السيطرة والتحكم في مياه النهر. وقد أخذت وتيرة هذا التحريض تتصاعد منذ العام 2010 حتى بلغت قمتها في العام الماضي وتفجرت الأزمة في شهر مايو 2013 حينما أعلنت إثيوبيا قيامها بعمل انفرادي في مياه النيل وذلك بتغيير مجرى النيل الأزرق لإنشاء سد النهضة. الإعلان الإثيوبي عن تحويل النهر لبناء سد النهضة أشعل فتيل حرب المياه بين دول حوض النيل. ولهذا فإن الكتاب قد جاء ليناقش الأزمة ويقدم مقترحات الحلول. وفي تقديري أن طرح مثل هذه القضايا يجب أن يعتمد الأسلوب المباشر والدراسة العلمية الواضحة التي تجعل القاريء مطلعاً على حقيقة الأوضاع والأسلوب الروائي لا يصلح في مثل هذ النوع من القضايا.

==هل التطرق إلى قضية سياسية بأسلوب قصصي قد يفقدها أهميتها، ويضيع جوهرها؟

هذا الأمر يتوقف على نوع القضية التي نعالجها والجمهور المستهدف بالكتابة وأسلوب الخطاب وعوامل أخرى تحكم طريقة الكتابة. كما يتوقف على براعة الكاتب، ففي القديم كانت القصص والروايات تعالج القضايا السياسية وتبرع في ذلك، والروائيون في العصور السابقة كانت لهم مكانة تشبه مكانة الشاعر في القبيلة في العصر الجاهلي، ولكن هذا قد مضى وأصبح الروائي لا يستطيع أن يفتي في أمر السياسة ولا أظن أن زماننا وقضاياه يحتملان الإيحاء في السرد لمعالجة القضايا المصيرية، والناس أصبحوا يهربون من جحيم الواقع السياسي في وسائل الإعلام وواقع الحياة إلى الفانتازيا والخيال لأن الخيال هو الفضاء الوحيد الذي يقدم الاسترواح للنفوس المتعبة والعقول المسحوقة في فضاءات الإعلام وشبكات المعلومات.

==للشعر وقع خاص في نفسك، فهل يمثل بالنسبة لك فسحة تعبيرية؟

الشعر عندي هو عالم من الخيال الجميل، أهرب إليه من واقعي وأبنيه كما يبني الطفل قصر الوهم على رمال الشاطيء ذات صباح ثم يهدمه في المساء قبل أن يعود مع والديه إلى واقعه وبيته. أضحك فيه وأمرح أو أذرف عبره الدمع غير ملام، وأطلق فيه الآهات دون أن أخشى الرقيب، وأهجو فيه نفسي دون أن يضحك الناس على ذلك بل يطربون، وأمدح من أشاء بما أشاء وكيفما أشاء. هو عالمي الذي أنصب من نفسي فيه حكماً وقاضياً على كل العالم، أحكم له أو عليه بلا قانون أو مرجعية إلا الهوى وحظ النفس، فأعبر عن جنوني وفتوني ومجوني، بكل حرية وأنا أعلم أن كل ذلك ينتهي بانتهاء آخر بيت في القصيدة. الشعر عالم آخر نصنع فيه القبح أو الجمال ونعبر فيه عن ذواتنا ونجسد في أبياته مشاعرنا وانفعالاتنا بما حولنا.

عمر فضل الله في سطور
=============================
عمر فضل الله من مواليد عام 1956 وهو كاتب ومؤلف وروائي سوداني ، ولد في العيلفون إحدى ضواحي العاصمة الخرطوم، ونشأ بها وحفظ القرآن والشعر وهو صغير وقد كان متفوقاً منذ الصغر، وفي جميع المراحل الدراسية. كان ضمن الأوائل في الشهادة الثانوية والتحق بجامعة الخرطوم حيث أمضى فيها سنة واحدة ثم غادرها لعدم استقرار الدراسة فيها آنذاك والتحق بجامعة الملك عبد العزيز بجدة وفيها نال شهادة البكالوريوس بتفوق عام 1980 ثم سافر بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث نال درجتى الماجستير والدكتوراة عام 1987 وعاد ليعمل بالمملكة العربية السعودية حتى العام 1991 حيث رجع إلى السودان محاضراً بالجامعات السودانية كما أسس مركز الدراسات الاستراتيجية والمركز القومي للمعلومات. وفي عام 1996 قرر الذهاب للعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة حيث ما زال يعمل ويقيم بالعاصمة أبوظبي. له إسهامات متنوعة في عدد من مجالات المعرفة والأدب والفكر والدعوة وهو شاعر وأديب. له بحوث وإسهامات في المعلومات وتقنياتها.