و ما تزال في دواخلنا يا أخي راشد يوسف الصديق ….. رحمة الله الواسعة علي روحك الطاهرة.
الذكري الخامسة و الثلاثين لحادثة الباخرة 10 رمضان….تيتانيك السودانية
كتب الله لي عمراً جديداً بالنجاة من تلك الحادثة مع مجموعة كبيرة من أعز الاصدقاء بحي ودنوباوي جنوب و ذلك بعد أن عدلنا موعد رحلة العودة الى السودان.
لا يمكن للكلمات أن تحكي عمق الكارثة التي فاقت كارثة تيتانيك حيث حاصر الموت الباخرة من كل اتجاه …… النيران الملتهبة و الغرق في البحيرة و الثعابين و العقارب التي تنتظر الناجين إضافة للظلام الدامس الذي غطى المكان كله كأنه يهيئ المسرح للموت…….تابعنا بأسي تبعات الحادثة في أسوان و عدنا للسودان في أول باخرة بعد الحادث مباشرة وكانت رحلة الصمت و الأنين و البكاء لأحبة و أصدقاء رحلوا و على رأسهم الأخ و الصديق و ابن العم راشد يوسف.
شكل هذا الحادث المريع واحدة من أعظم محطات الألم في بدايات حياتي و تعمدت كثيراً الهرب من الحديث عنه لكن مقال الأخت الكاتبة الكبيرة مشاعر شريف فتح بوابات الذاكرة على مصراعيها حيث كتبت على صفحتها:
يوافق الخامس والعشرين من مايو المقبل الذكرى الخامسة و الثلاثين لحادثة الباخرة المصرية العاشر من رمضان. ففي ذلك اليوم من عام ١٩٨٣ كانت الباخرة القادمة من ميناء السد العالي في طريقها جنوباً لوادي حلفا و على متنها 750 راكباً على موعد مع الموت!
ففي الساعات الأولى من فجر ذلك اليوم نشب حريق هائل و مفاجيء على متن الباخرة مما أدى لاشتعالها في أقل من ١٥ دقيقة…. توفى خلالها 350 من الركاب أغلبهم من السودانيين…. وبينهم 35 طالبة من مدرسة الجريف شرق الثانوية يرافقهن 47 معلماً و مرافقاً كانوا في طريق عودتهم للخرطوم بعد رحلة علمية في القاهرة .
توّثق رواية نيلوفوبيا هذه الحادثة المفجعة عبر تخيل حكايا هؤلاء الطالبات و ساعاتهن الأخيرة في المركب… ساعات فصلت بينهن وبين الموت الذي اختطفهن و هن في قمة سعادتهن بالتفوق و بالرحلة و بذكرياتهن في القاهرة و بشوقهن لأحضان الأهل في السودان…
ساعات و احترق بعضهن و غرق البعض الآخر أو افترسته التماسيح… أما من نجت منهن ووصلت بر الأمان فقد هاجمتها جيوش العقارب و الثعابين و الذئاب!
ساعات أحاط فيها الموت كل مخارج النيل فكانت مأساة ما زالت تدمي قلب كل من عاشها أو سمع عنها.
مأساة حقيقية و فاجعة مؤلمة تفوق الواقع و الخيال يسردها لنا ببراعة و إثارة و تشويق عزو… أحد ضحايا النيل!
.
.
.
كتب الأستاذ علي الشايب في صفحته بمناسبة الكارثة:
الذكرى (39) لحادثة احتراق الباخرة عشرة رمضان.
…….. رواية ناج!……..(1)
في هذه الساعة التى أكتب فيها هذه القصة أعود بذاكرتي إلى نفس هذا التوقيت الثلاثاء 24 مايو 1983 م.
كنت حوالى الساعة 11 قبل منتصف الليل جالساً على أرضية الطابق الأول للصندل الذي يجاور جسم الباخرة عن يساري وهناك عن يميني يبدو الصندل الآخر وقد احتلته رحلة طالبات مدرسة الجريف الثانوية للبنات.
كان رفيقاي في تلك الرحلة ابن عمتي هاشم والذى نسق معي للذهاب إلى مصر بغرض التجارة بينما أنا ذهبت بغرض العلاج وفي القطار المتجه إلى حلفا انضم إلينا الزميل المغفور له الشهيد بإذن الله الأستاذ طه حسين السيد من عطبرة.

نزلنا في حلفا في أحد المباني الخشبية والتى تسمى تجاوزاً باللوكاندة… كان رفيقاي يحملان جواز السفر أما أنا فقد كنت اُعوِّل على استخراج بطاقة وادى النيل من حلفا والتى تسمح لحاملها بالسفر إلى مصر وفور وصولي اكتشفت إنه تم ايقاف التعامل بها وكنت قد احتطت للمفاجئآت بأخذ اسم أحد المسؤولين في وادي حلفا في حالة حدوث أي عراقيل وقد نجح ذلك المسؤول بفضل وساطته في منحي تأشيرة سفر اضطرارية… وصلنا القاهرة وقد ساعدنا الأستاذ طه لأنه سبق أن زار القاهرة من قبل… قضينا أقل من اسبوعين وقررنا العودة… عند وصولنا إلى الميناء في منطقة السد كانت كل الإجراءات قد اكتملت والباخرة على وشك الرحيل نزلنا من سيارة الأجرة مسرعين وعبرنا منطقة الجوازات والجمارك دون أن يسألنا أحد فقد غادر الجميع وتم إعطاء إذن التحرك وقفنا نلهث عند المرفأ ولكن طاقم الباخرة أشار إلينا بعدم الصعود فقد رفعت السقالات غير أن بعض الركاب أنزلوا إلينا إحدى السقالات وسحبونا مع أغراضنا خلسة دون علم طاقم الباخرة!!!.
تحركت الباخرة حوالى الرابعة عصراً… أنا عادة عندما أدخل إلى أي مكان أقوم بجولة وأراقب المكان حيث أتوقع دائماً أسوأ النتائج ويعزى السبب في ذلك إلى ماتعلمته من قراءتي للروايات البوليسية التي تأثرت بها منذ المرحلة المتوسطة فقد قرأت كل روايات أجاثا كريستي وروبن هود والقديس وأرسين لوبين فقد كنت مشتركاً في مكتبة دبورة في عطبرة وأنا طالب في المتوسطة وكنت معجباً بشخصية المحقق هركيول بوارو وشخصية مس جين ماربل وبفضل هذه العادة عادة التوجس وتفقد المكان والبحث عن طريق (المخارجة) في حالة حدوث الطوارئ فقد تجاوزت كثيراً من الورطات بل والكوارث الحقيقية أحياناً فقد لفت نظري وضع الباخرة الغريب فقد كان من المفترض أن تتوسط الباخرة الصندلين ولكن الصندلين كانا مربوطين مع بعضهما البعض بالحبال ثم تم ربطهما على الجانب الأيمن من الباخرة بحبال بلاستيكية!…. صعدت على سطح الباخرة حيث يقبع في الخلف زورق صغير للنجاة مربوط في مؤخرة الباخرة تسحبه من خلفها نزلت إلى الزورق كان مربوطاً بإحكام بربطة تسمى عقدة البحارة كنت أعرف طريقة حلها فقد تعلمتها في الكشافة وأنا طالب في المتوسطة ثم ذهبت إلى الأسفل حيث مقدمة الصندل في الطابق الأرضي وجدت مقدمته مزدحمة ببراميل الوقود من الديزل والبنزين فقد كان البحارة يستغلون الرحلات لبيع الوقود والغاز في السودان لمصلحتهم الشخصية… لاحظت وجود عدد لابأس به من أطواق النجاة معلقة على جانب الباخرة الملتصق مع الصندل الذي أجلس فيه. سحبت عدداً منها قريباً منا حيث أصبحت في متناول اليد وكان هذا سبباً رئيساً في نجاة ابن عمتي هاشم فيما بعد!
كانت الباخرة تعج بقرابة 700 راكب تقريباً معظمهم من الطبقة المتوسطة والبروليتاريا وعدد من العوائل…. كان بعض الركاب من الذين ذهبوا للعلاج وآخرين كانوا قد ذهبوا بغرض السياحة أو التجارة بينما كان الطابق الثاني العلوي من الصندل الأيمن محجوزاً بكامله لأسرة مدرسة الجريف الثانوية بنات وعددهن أقل من خمسين طالبة بقليل وقد تم وضع ستائر على طول الطابق العلوي لهذا الصندل بدافع الخصوصية..
بعد أن انتهيت من جولتي التفقدية عدت إلى مكاني في أقصى الطابق الثاني في الصندل الأول الملاصق للباخرة حيث يمكنني تسلق الباخرة مباشرة بقفزة صغيرة.
كانت المساحة ضيقة والتكدس مزعجاً للغاية وقد عثر هاشم على كنبة تمدد عليها بينما التف طه حول نفسه يغالب النعاس وقد توسد إحدي حقائبه أما أنا فقد جلست بجانب طرودي لقد حولت كل ماتبقى لي من مال إلى كتب فقد كنت أحمل مالاً لا بأس به للعلاج ولكن التحاليل والصور والفحوصات أكدت أنني لا أحتاج إلى تدخل جراحي فقط روشتة أدوية قليلة لقد كانت تكاليف العلاج كلها أقل من 70 جنيهاً مصرياً وكان الجنيه المصري يعادل جنيهين سودانيين ومن ثم قمت بملء ثلاثة طرود ضخمة من الكتب والمجلدات الثمينة من ميدان التحرير وسور الازبكية.
قضينا تلك الليلة على السطح حيث كانت هناك فرقة موسيقية عادت من مصر بعد أن قامت بشراء العديد من الآلات الموسيقية وكانوا يجربون آلاتهم مما سبب كثيراًً من الازعاج للركاب… كانت العشوائية هي السمة الغالبة على وضع الركاب والذين يبدو أنهم أكثر بكثير من العدد المسموح له باعتلاء الباخرة التى صنعت عام 1903م حيث كانت مخصصة لنقل البضائع والمواشي وقد أجريت عليها الكثير من التعديلات حتى تحولت إلى نقل الركاب بل إن هذه الرحلة كانت أولى رحلاتها بعد خروجها من الصيانة!
عدت إلى مكاني ولا أدري كيف نمت في هذا الجو الحار الخانق وأنا أفكر في أسرتي في السودان وقد كنت مسروراً جداً بنتائج رحلتي العلاجية.
………… يتبع………