[metaslider id=10825]

نص الحلقة الثانية ..السبت 6 سبتمبر 2014م..
= كتاب الفحل الفكي الطاهر (تأريخ وأصول العرب بالسودان) قمت بتحقيقه،الخلاصة والحقيقة الجلية.؟ 
(تاريخ وأصول العرب بالسودان) الذي جمعه الفحل بن الفقيه الطاهر في آخر عمره، وطبع بعد وفاته يعتبر من المؤلفات السودانية القليلة في تاريخ العرب بالسودان التي كتبها مؤرخ سوداني فلم يصدر قبله إلا عدد قليل من المؤلفات التي تنسب إلى مؤرخين سودانيين، مثل الدكتور مكي شبيكة والأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن. ومعظم المؤلفات في تاريخ السودان كتبها مؤرخون مستشرقون، أو باحثون أجانب (مثل ماكمايكل، أو تيرمنجهام أو نيكولز أو كراو فورد) أو كتبها رحالة ومنصرون أمثال (فرن الرحالة الألماني الذي زار السودان في خلال سنتي 1840 – 1841م وألان مورهيد أو بروس أو لوبو) أو كتبها مؤلفون عرب من غير السودانيين (مثل الشاطر بصيلي عبد الجليل، ودكتور شوقي الجمل، ودكتور زاهر رياض وابراهيم فوزي وغيرهم). ومعظم مؤلفات هؤلاء الأخيرين كتبت إبان الوجود المصري الإنجليزي في السودان أو بعيد الاستقلال بفترة قصيرة. وقد بذل المؤلف – رحمه الله- جهداً كبيراً في جمع مادة الكتاب حيث سافر إبان شبابه إلى كثير من القرى والأمصار وقابل الثقاة ونقل عنهم، فأخذ بذلك من مصادر نادرة انفرد بها كما توخى الدقة في جميع ما كتبه وحرص على الوصول إلى المصادر وحينما لا تتوفر المصادر كان يكتب عن ذلك ويعتذر عن التقصير بكونه قد بلغ التسعين من العمر فلا يقدر على الأسفار والترحال و التجوال في البلاد. وقدطبع الكتاب طبعة واحدة فقط وكانت بعد وفاته رحمه الله فقد فرغ من تأليف الكتاب في عام 1962 ولم يتم طبعه إلا في العام 1976 على نفقة الرئيس الأسبق جعفر النميري رحمه الله ولكن تلك النسخة الوحيدة نفدت من الأسواق منذ أكثر من ثمانية وثلاثين عاماً واختفت من المكتبات، ولم يقم أحد بإعادة طباعتها رغم أهمية هذا المرجع الذي لا غني لمن يكتب في تاريخ العرب بالسودان، بل لا غنى لمن يكتب في سير وأنساب وتاريخ القبائل العربية بالسودان عنه. وكنت قد اطلعت على هذا الكتاب منذ عدة عقود مضت، ولاحظت الطباعة السيئة والإخراج الرديء الذي لا يليق بهذا الكتاب، فكان ذلك أول ما حفزني لإعادة جمع وإخراج وطباعة الكتاب، ثم شغلتني الشواغل والسفر حيناً من الدهر وضاعت مني نسخة الكتاب ضمن ما ضاع من مكتبتي. ثم أعارني أخي وابن خالتي – الدكتور إبراهيم على الجعلي- حين كان يعمل بأبوظبي بالإمارات العربية المتحدة نسخته من هذا الكتاب والتي كان قد اقتناها وحرص عليها زمناً طويلاً، لما رأى من حرصي على إعادة طباعة الكتاب، فحفزني ذلك لبذل الجهد لإعادة جمع متن الكتاب، ثم بدأت في كتابة الحواشي والتعليقات على مادته وما ورد فيه، وبمرور الأيام تجمعت عندي مادة رأيت أن أشرك القراء في الاستفادة منها، خاصة بعد أن استفاض الجدل والحوار والنقاش حول أصول العرب بالسودان وأنسابهم بين مثبت ونافٍ ومشكك ومحقق، وناقد ومدقق. فقمت بتحقيق مصادر المؤلف التي ذكرها رحمه الله في آخر الكتاب فدرست تلك المصادر واجتهدت من التحقق منها، لا سيما وأنها مصادر أصلية سعى إليها المؤلف وسافر إلى بقاع السودان ليصل إليها في وقت كان شد الرحال فيه صعباً كما اجتهدت في تنظيم مادة المتن وتنسيقها وضبطها وتقييد النصِّ بالحركات ما أمكن كما ذيلت النص بالشروح والحواشي والتعليقات والهوامش مع الإشارة إلى المراجع. وذكرت الآراء المخالفة وقارنت بينها وأحياناً أبدي رأيي أو أرجح قولاً على قول مع التعليل عند الترجيح. كما أوضحت المبهم المغمور فعرفت به وتركت المشهور وقمت بتخريج بعض الروايات ورددتها إلى أصولها وقمت بنقد النصِّ وعلقت عليه وذكرت المراجع العربية والأجنبية. كما أضفت ملحقاً عن المؤلفات المفيدة في تاريخ العرب بالسودان. وختاماً نقلت مقولة المؤلف التي لخصت الهدف من تأليف الكتاب وهي صلة الرحم التي هي من أسباب دخول الجنة وليس الهدف من تأليف الكتاب هو ما يدور هذه الأيام من لجوء الكثيرين إلى التفاخر بالقبائل والأنساب فهي عصبية منتنة نهى الإسلام عنها.

= بيتكم خلف مسيد إدريس ود الأرباب،التكوين الوجداني لك من هنا..؟
نشأت في بيئة صوفية مثلي مثل بقية أهل العيلفون، وشهدت حلقات الذكر وضرب النوبة والطار في الأمسيات ومراسم الاحتفالات بالأعياد وضرب النحاس، واحتفالات الخلوات ومجيء الحيران وعرضة (العشيبية)، وقد تأثرت بهذه المشاهد منذ الصغر كما تأثر أقراني وأسهمت في تكوين وجداني، غير أن بيئة خلاوى القرآن هي التي أسرتني أكثر من غيرها. ورغم حفظ القرآن وتعلم العلم إلا أنه قد بقيت في روحي بعض وجدانيات الدرويش الذي تهزه المدائح ويسمع النوبة فيرجحن. وقد نبهني بعض الإخوة مؤخراً إلى أن بعض قصائدي هي ضرب من الوجد القديم الصوفي، بعد أن لم أك منتبهاً لهذا وذلك مثل قصيدة (حي قيوم) التي تقول:-
حي قيوم .. قيوم حى
قلبي طير في قفص الأضلاع..
يخفق مذ قلت له كن..
سبحانك
دَقَّ فَدَقَّ .. وعَظُمَ فَرَقَّ
وعَرَفَ فأبصَر.. أن الكون الحىْ
وغير الحيْ وغير الكون
بدون رضائك ليس بشيْ
أحب فخفق بنبض الحب
وحب الرحمة فيء الفيْ
وانسكب جمال ونور جلال بهائك
فوق ظلام ودجن الغىْ فانفرد الطىْ
نفسي مهجٌ رويت وامتلأت رىْ
قلبي بهِجٌ ٌ بلباس التقوى نعم الزىْ
ولساني لهجٌ بالتهليل يسبح للقيوم الحيْ
حي قيوم، قيوم حى

وقد علق الأستاذ الشاعر والأديب ياسر خيري عليها بقوله: (تلك الروح القَلِقة في سبعينات القرن الماضي وثمانِينِياته وتلك العوالم و(الفانتازيا) تستحِيل في القرن الحالي ليقين وإيمان ونزعة صُوفِيّة تتلَبّس الحب الآخر ) وحين أنكرت هذه النزعة قالت الأستاذة عفراء عبد الحميد: (لم يدهشني قولك أنك لست صوفيا فأنا لست بصوفية أيضا … لكن الذي أدهشني أن تلك القصيده أيقظت بداخلي درويشاً بجلباب و مسبحة يدور في حلقة ذكر مغلقه .. ربما وكما قال استاذ ياسر خيري والاستاذ حسن محمد لأن بداخل كل منا يكمن ذلك الصوفي يطل برأسه رغم انكارنا له … وحي قيوم).

=ماذا عن سوق ود ريا بالعيلفون ..؟ 
رغم مضي أكثر من خمسين عاماً على طفولتي الباكرة ومرافقتي لأبي (ودريا) رحمه الله في سوق ودريا إلا أن أذني مازالت حتى الآن تسمع نداءات “شيخ ادريس ود القش” و”أحمد ود ابزيت” و”الخضرجية” وهم ينادون لبيع الطماطم والعجور والبصل، وثغاء الأغنام والشياه التي يأتي بها “عبد الله ودبابكر” و”ودبهاء الدين”، وصوت أبي وهو يطلق صيحات الإعجاب حين يكون قد ذبح خروفاً سميناً، أو وهو يمدح رافعاً صوته: “شويم شويم شال القافلة.. وبيمشي من عصير للنافلة” أو حين يتغنى بأبيات الحكمة في أشعار “ود الرضي” وقد كان راويةً من رواته. و”بتول بت ست الدور” يتبعها كلبها المعروف، وفضل الله “فليل” فراش المدرسة الابتدائية وهو يمر راكباً البسكليت متجهاً نحو المدرسة. وإخواني إسماعيل وعلي وختم ومعنى.. ومنظر الخراف المعلقة في المسلخ والزبائن حين يتقاطرون حول تربيزة أبي.. والحدأ المحلق فوق رؤوسنا المتربص لخطف بقايا اللحم أو الشحم، وأصوات طائر الكركي “أبي السعن” وهي تتقاتل حول الأظلاف المتناثرة في الجزء الشرقي للسوق، والجالسون في الظل من المسافرين الذين ينتظرون “سفريات همام وأولاده” الذي كان يأتي من رفاعة ولا يتخلف عن مواعيده وكان يمكنك أن تضبط ساعتك بدقة على مواعيد حضوره، وكذلك “بص الدبيبة”. كان عالماً كاملاً مليئاً بالأحداث الجميلة والذكريات الحلوة رأيت فيه شتى أنواع البشر وتعلمت فيه أصول التعامل مع الناس، واكتسبت الكثير من صفات أبي وشخصيته التي يحبها الجميع. كان أبي امبراطور السوق فهو الذي يملي الأسعار كل يوم وهو الذي يحيل السوق إلى عالم من البهجة والمرح بتعليقاته الساخرة المحببة، وكان الناس يأتون إليه من البعيد فميزانه لا يطفف أبداً وبضاعته هي الأجود وهو لا يكترث للسعر ولكنه يحرص على الزبائن. لا أزال أذكر المنافسة حين تشتد وتحتدم بينه وبين “الجيلي ودشتور” و”داود” والماحي” و”الطيب خير” و”المومن”. وكان يكسب في كل جولة فهو خصم عنيد ومن ينافس أبي كان يرحل في آخر الأمر لينتقل إلى سوق آخر، وقد حدث هذا أكثر من مرة. و لا أزال أذكر ذلك اليوم حين تحداه الجزارون فاجتمعوا واتفقوا عليه وأرخصوا الأسعار جداً في ذلك اليوم لتبور بضاعته ويرحل عن السوق ولكنه بدلاً من أن يرحل أتى بمراح “قطيع” كامل من الخراف أكثر من ثلاثين خروفاً وأمر جميع إخواني أن يبدأوا الذبح ولا يتوقفوا أبداً وأخذ يصيح” الليلة ببلاش ببلاش”. أذكر يومها أن بقية الجزارين جاءوا جرياً يمسكون بأيدي إخواني حتى لا يستمروا في الذبح بعد أن ذبحوا أكثر من عشرة خراف، وأخذ داود الماحي يصيح: “الله ليا من ودريا”. وانتهى بهم الأمر إلى الرحيل إلى سوق الشجرة وتركوا السوق لودريا لينفرد به وحده امبراطوراً بلا منافس. أمر اليوم على سوق ودريا فأراه أطلالاً حزينة وبقايا “دكاكين” تشهد على ماض تولى، وأغمض عيني فيعود سوقاً عامراً وعالماً حياً، هو مجتمع كامل صنع مني إنساناً!! رحمة الله عليك يا أبي.
= اسحق فضل الله روائي ضل طريقه للسياسة..؟
إسحاق فضل الله يستطيع أن يكتب في كل شيء فهو عالم قاريء ومطلع في كثير من ضروب المعرفة والعلم، وهو الرجل الزاهد الذي لا تهزه الدنيا مهما أقبلت أو أدبرت. إسحق فضل الله هو هو لم يتغير منذ الصغر فهو جريء صلب العود عنيد في كل شيء يزيده التحدي إصراراً، يرى الناس على وجهه قناعاً من الجمود والقسوة والغلظة، ولكنه أوتى قلباً رقيقاً جياشاً بالمشاعر عامراً بالخوف من الله. إسحاق فضل الله شاعر وأديب قلما تجود بمثله الأيام فهو يكتب القصة الحزينة فلا تملك إلا أن تبكي وأنت تقرأها، ويكتب القصة المفرحة فتحلق معه في سموات الفرح الجميل. تعبيراته بسيطة ولكنها مؤثرة وتنفذ إلى القلوب. ولكنه ذبح عبقريته الأدبية على أعتاب قناعاته السياسية وهو يعمل بتفان وإخلاص للدفاع عن تلك القناعات، ويعتبر أنها دين وهو مستعد لأن يموت في سبيلها غير مبال – ولا يهمني الآن بيان صوابها وخطأها – ولكنني أقول في هذه العجالة إن الأدب السوداني قد خسر كثيراً يوم أدار له إسحاق فضل الله ظهره..
= الهجرة،أخذت منك وأضافت لك..؟
الهجرة سرقت شبابي وعمري وعلاقاتي الاجتماعية وأصدقائي وأقراني سرقت سودانيتي، أخذت فرحي مع من يفرحون ومواساتي من يحزنون ومشاركتي أهلي في مناسباتهم،جعلتني إنساناً على هامش حياة السودانيين بعد أن كنت ملء السمع والبصر والفؤاد، فأصبحت إنساناً لا يسأل الناس عنه إذا غاب ولا يكترثون له إذا حضر. ونشأت أجيال كاملة وهي لا تعرفني بل تنظر إلى بعين الريبة حين تشاهدني في طرقات العيلفون وعيونها تتساءل: من هذا الغريب المتنكر في ثياب أهلنا؟ تجاوزتني الأحداث ونسيني الناس. الهجرة حرمتني أن أكون إضافة مفيدة لأهل السودان. الهجرة شر مستطير.
وبالمقابل أسهمت بالهجرة في بناء وطن آخر في الإمارات، شيدت مؤسسات وأنظمة كنت أحلم بتشييدها في بلادي وأنجزت مشاريع ضخمة وواكبت أحدث التقانات واكتسبت المزيد من الخبرات والأصدقاء والمعارف الجدد وأنشأت علاقات مع كثير من الأجناس، وفي الهجرة وجدت الوقت لأكتب وأدون وأخلو بنفسي وأفكر. ولو قارنت ما أضافت مقابل ما أخذت فإن ما ضاع مني بالهجرة لا يعوضه شيء.
= نحتاج أن ننتصر على الجراحات،أحشد الأغلبية خلف هدفك لتنجح بحق، إياك والظن أنك الرجل الذي يشكل أغلبية،ورقة يحتاجها الوطن هذه الأيام،لمن ترفعها وفي وجه مَنْ ..؟
لسئت متفائلاً وفقما أرى الآن. فلست أرى في الأحزاب الحالية حزباً مؤهلاً يستحق أن نحشد الأغلبية خلف هدفه لأن أقصى أهداف هذه الأحزاب جميعها هو الوصول للحكم وليس وراء ذلك شيء. وهو هدف لا يحفزنا لندعو له أبداً ما لم يكن وراءه طرح واضح وبرامج نهضوية ناضجة نابعة من خطط مدروسة ووسائل مجربة للتغيير والنهوض بالبلاد. دعنا نواجه الحقيقة المؤلمة التي لن تعجبك وربما تغضب الكثيرين، ولكنني أؤمن أن مواجهة الحقيقة بشجاعة وتقبلها هي أول خطوة في الطريق الصحيح. التجمعات الحالية هي إما أحزاب تقليدية مارست الحكم من قبل ولم يعد لديها الكثير لتقدمه لأن قياداتها القديمة وأساليبها العتيقة لم تتغير، أو هي تجمعات ناشئة يقودها سياسيون موتورون أو منشقون أو مفصولون من تلك الأحزاب التقليدية، وحتى النظيفة منها هي تجمعات منبتة لم تنجح في التواصل مع القواعد ولم تستقطب العقول فأصبحت جزراً معزولة في بحر الوطن الكبير، وبهذا أصبح كلا الجانبين ضعيفاً وغير مؤهل ويطرح إما رؤى قاصرة وناقصة أوبرامج غير ناضجة أو قيادات لم تلق القبول الواسع وإلا لتبعهم الناس وآزروهم ونصروهم لو لمسوا فيهم صدق التوجه. الشعوب لديها حاسة لا تكذب في الحكم على مثل هذه التجمعات. ونحمد الله أن هذه الأحزاب مجتمعة لا تشكل أغلبية فالأغلبية هي الشعب غير المنتمي لتلك الأحزاب، هي الشباب والنساء والأطفال الذين لم يحترفوا السياسة ونأوا بأنفسهم عما يدور من معارك ونعرات. ومن أسف فإن النظام الحاكم لا يستمع إلى الأغلبية ولا يخاطبها أصلاً فهو قد فقد أدوات الخطاب والتواصل معها وإنما يستمع لمجموعة من السياسيين الذين لا يمثلون شعب السودان. وتسألني ما الحل فاقول لك إن الواجب يقتضي الآن التجمع الفوري للعلماء “الحقيقيين” لتشكيل قيادة تجمع السودانيين حول الهوية الوطنية، وترفع شعار “الوطن فوق الجميع” وتنبذ الحزبية بالجملة وتدعو للولاء للوطن فقط، وتدعو للبناء والتنمية وتدعو لوضع خطة محكمة ومتكاملة للنهوض بالبلاد. هؤلاء هم الذين يستحقون أن نحشد الأغلبية خلفهم لننجح بحق.
هذا ملخص ورقتي أرفعها لعلماء البلاد ولكن لا يهمني في وجه من أرفعها.
=الحوار الوطني لاينجح في بلادنا النجاح المطلوب إلا إذا كانت كل أحزابنا تستطيع العمل بنظام (التيم ويرك)،هل أحزابنا تستطيع ذلك..؟
كيف ينجح حوار بلا أجندة واضحة ولا منهج ولا أهداف؟ كيف ينجح حوار لا يسأل الأسئلة الصحيحة لمشكلات الوطن ولا يشخص أدواءه وعلله؟ كيف ينجح حوار مع من يعلن قبل الحوار أنهم ماضون فيما هم فيه وأن الحوار لن يغير شيئاً؟ وتقول (تيم ويرك – أو عمل جماعي) وأقول لك متى عرفت الأحزاب السودانية العمل الجماعي؟ لقد ترسخ في فهمنا منذ أن كنا طلاباً وهواة للعمل السياسي أن التمثيل النسبي في الانتخابات لا يأتي بإتحادات قوية وإنما تكون الإتحادات قوية عبر الانتخاب الحر المباشر، والذي يأتي في العادة بفوز توجه واحد فقط ينفرد بالقيادة!! الأحزاب الحالية تتقن الخطب والكلام ولكنها لا تعرف العمل ولا العمل الجماعي. الحوار لا ينجح حين يفقد الطرفان الاستعداد لقبول الآخر بل حين يفقد الطرفان مجرد الرغبة في الاستماع للآخر.
= تفشل الدولة في إدارة التنوع الثقافي إذا كان العقل الوحيد لها (سياسي واستبدادي)..ماذا تقول في هذا..؟
التنوع الثقافي في المجتمعات المتطورة هو من عمل المجتمعات وتحت إدارتها وليس من عمل السلطة. والأمر الطبيعي هو أن يكون المجتمع مستقلاً عن السلطة في نشاطه الثقافي وسابقاً عليها في مبادراته. وحين تمارس الدولة رقابة الأخ الأكبر فتتسلط على النشاط تقتله. حتى السياسة في المجتمعات المتقدمة هي ثقافة ممتعة، ولكنها في بلادنا غول قبيح يفتك بكل نشاط ويجثم على الصدور. وحين تتخلى الدولة عن العقول المستنيرة فطبيعي أن تنتقل السلطة بالوراثة للعقول المستبدة فلم العجب؟
= نصف الحل عند الآخر، إذا الآخر هو المكسب الحقيقي،نحن نكتمل به، فلماذا نؤجل اكتمالنا بإستبدادنا الصعب..واقعنا السياسي كله هكذا،هل من سبيل للحل ..؟
أين هو الآخر؟ بل من هو الآخر؟ استيقظ أيها الحالم.
= ليس هنالك تواصل للأجيال عندنا،تجاربنا مقطوعة وتجريبنا متوقف،والمستقبل أمامنا ليس على قدر الحلم الكبير بالوطن..؟
في واقع الحال لا توجد أجيال أخرى. هو جيل واحد ظل يتكرر منذ الاستقلال وحتى اليوم. هو هو نفس الجيل. مضى عليه نصف قرن وأكثر وهو هو جيل واحد يتكرر كل عشر سنوات. الأجيال في الدول الأخرى تتجدد وتتغير كل عشر سنوات وترتقي وتتواصل. الجديد يرث الأصالة من القديم ويكتسب الحداثة من قرنائه ويتواصل. نحن لا نملك تجارب بل نملك تجربة واحدة مكررة طوال الأجيال دون تغيير يطرأ عليها ولا تحديث. وأما الأحلام فهي كل ما بقي لدينا لنتمسك به, ومن سنن الله في الأرض أن الأحلام الجميلة لا تصبح واقعاً إلا لمن أوتي حظاً من إيمان وصلاح فاللهم ارزقنا الصلاح والإيمان. وأما المستقبل فهل ترى مستقبلاً لأجيال ليس أمامها إلا الأحلام؟ حدثني عن المستقبل إن كنت تراه أمامك فأنا لا أراه أمامي.
= المعرفة ليست كتباً تقرأ ونتحدث عنها،إنما ممارسة عملية حقيقية فياضة للعلم والتجريب..لعلك تتفق معي أن لدنيا إشكالية كبيرة في مفردة (المعرفة)..؟
العلماء في القديم كانوا يقرنون العلم بالعمل، وكل علم لا يؤدي إلى عمل فهو وبال على صاحبه، وبهذا الفهم أخرج علماء الأمس علوماً ومعارف أدهشت العالم وحيرته وجعلتنا نقود العالم من المغرب وحتى أقاصي الصين. المعرفة الحقيقية علم وعمل، والإيمان علم وعمل. وإشكاليتنا ليست في مفردة المعرفة وإنما إشكاليتنا هي في مناهجنا التي جعلتنا نتخلف عن العالم وكأننا في مجرة أخرى في ركن قصي في درب التبانة اسمه “كوكب السودان “!!
= التدين التنموي هو الذي نبحث عنه هذه الأيام..؟ = هل سقطنا بما يكفي معرفياً وجمالياً وتراجعنا للوراء كثيراً..
نحن نبحث عن الفهم الصحيح للدين. فالدين في حقيقته هو الدين لم يتغير ولا يتغير منذ أن خلق الله السموات والأرض ولكن فهمنا للدين هو الذي تغير. الدين ليس عدواً للتقدم ولا العلم ولا التنمية ولا عمران الأرض ولكن الدين عدو للذين يسعون في الأرض الفساد، (والله لا يحب الفساد) والدين عدو للجهل والجاهلين (لا نبتغي الجاهلين). الذي سقط هو فهمنا للجمال مع أن الله قرر في القرآن أن الجمال نعمة فيما خلق (ولكم فيها جمال) والذين سقطوا هم من يظنون أن انتماءهم للتدين وللدين يمنحهم الحاكمية والتسلط على غيرهم وممارسة هذا الانتماء كيفما يشاءون وأنه يمنحهم صكوك الغفران ويجعلهم شعب الله المختار. اليهود لعنوا لأنهم نقضوا ميثاقهم مع الله، وسنة الله تمضي على كل من ينقض الميثاق..