إيماءة على نص “ترجمان الملك”/ عادات مسيحِيّة قدِيمة في السودان الشمالِي. 

ياللروعة والجمال. الآن بدأت أحس أن “ترجمان الملك” قد ألقت حجراً في اليم، وأن دوائر الحراك الثقافي بدأت تنداح على صفحة الماء. جميل هذا الطرح، وجميل أن نبدأ حواراً ثقافياً أدبياً تاريخياً نحيي فيه تراثنا ونعيد لهويتنا رونقها ونعلم النشء والأجيال أصالة هذه الرقعة من العالم. الكلام عن العادات والطقوس الوثنية أو المسيحية القديمة في المنطقة يتطلب حواراً مستقلاً بذاته، وربما أعود له فيما بعد ، ولكن يهمني هنا الجزء الثاني من مشاركتك وهو: (هل وقفت اللغة حاجزاً بين العرب وتأصيل الثقافة والمعارف الإسلامية فلم يستطيعوا القضاء على تلك العادات والتقاليد والطقوس المسيحية القديمة المتوارثة؟). معلوم أن هذه الرقعة من العالم هي من أكبر مواطن التجمعات البشرية الحضرية القديمة التي قامت على ضفاف الأنهار الكبرى مثل الحضارة الصينية وحضارة ما بين النهرين. يذكر “فرتز هنتزة” الأثري الألماني المعاصر والمتخصص في دراسات الحضارات النوبية السودانية القديمة أن التأريخ يسجل لحضارة نهر النيل النوبية السودانية أنها من أقدم مواطن العمران الإنساني وأنها ازدهرت تحت مسميات ممالك النوبة القديمة في البجراوية ومروي لأكثر من ثلاثة آلاف عام وازدهرت بقوة في الفترة من عام (2800 ق.م.) إلى عام (525 م) وقد تعاملت خلال هذه الفترات مع حضارات أخرى معاصرة مثل الإغريق والرومان وغيرهم من الأمم التي امتد نفوذها للمنطقة ، ولا تزال مخلفات الأهرامات والقصور الملكية بتماثيلها ونقوشها وخاصة منجم صهر الحديد ومعبد الأسد شامخة شمال مدينة “شندي”. كذلك أريد أن أقرر هنا أن هناك كثيراً من الرحالة والمكتشفين من المسلمين والإفرنج قد كتبوا عن المنطقة أو زاروها أمثال المقريزي والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون وابن سليم الأسواني ، ومن الفرنجة هيرودوتس وديودورس الصقلي واسترابو الروماني ويوسفوس اليوناني ولبسيوس الألماني وصمويل شارب الإنجليزي وماسبيرو الفرنسي. كما أقرر هنا أن ممالك النوبة اتصلت بالحضارة الفرعونية في مصر وتبادلت معها الاحتلال المباشر وبسط النفوذ خاصة فترة الاسرتين الخامسة والسادسة والعشرين فهي فترة حكم ملوك النوبة السودانيين لمصر من أسرة (كشتا). ثم امتدت الثقافة الرومانية والبطلمية فشملت هذه المنطقة ونشأت نتيجة لهذا المد الحضاري أو الثقافي الجديد مملكات النوبة الثلاث (المسيحية) وهي: 1. مملكة النوبات (نوباتيا) وتمتد من منطقة نهر النيل من الشلال الأول إلى الشلال الثالث وعاصمتها فرس بشمال السودان. 2. مملكة المقرة وتمتد من الشلال الثالث إلى كبوشية وعاصمتها دنقلا بشمال السودان. 3. مملكة علوة وتمتد من منطقة مابين النيل الأزرق ونهر عطبرة وعاصمتها سوبا إلى الجنوب الشرقي من الخرطوم على ضفاف النيل الأزرق، وذكر المؤرخون أن علوة أهي أكبر هذه الممالك وأقواها وأكثرها نفوذا بل وامتد نفوذها إلى البحر الأحمر شرقاً وإلى منطقة كردفان غربا. الممالك المسيحية هي في واقع الأمر امتداد لحضارة ممالك النوبة السودانية القديمة فهي رغم أنها اتخذت المسيحية ديناً رسمياً للدولة إلا أنها حافظت على الممارسات الحياتية والمعتقدية والثقافية (النوبية والمروية) بوثنياتها وطقوسها. ولم يكن للمسيحية كدين سماوي أي ممارسة حياتية أو وجود حقيقي في حياة الناس. وحتى الطقوس المسيحية التي بقيت حتى الآن هي خليط بين المسيحية والوثنية القديمة. وأما الوجود العربي في المنطقة فهو ذو جوانب متعددة: 1. النزوح العربي القديم ما قبل الاسلام للقبائل البدوية الرعوية العربية التي هاجرت عبر ميناء عيذاب إثر موجات الجفاف خلال بدايات الممالك النوبية المسيحية في القرن السادس الميلادي، وأهم البطون والأفخاذ التي عبرت بالإبل إلى السودان هم جهينة وهوازن وربيعة وأسد. ويقال إن بعض هذه الهجرات تم في عهد مملكة مروي القديمة. 2. بعض هؤلاء العرب دخلوا عن طريق باب المندب إلى اثيوبيا ثم هاجروا إلى بادية السودان. 3. (رحلة الشتاء والصيف) التي ذكرها القرآن الكريم في سورة قريش والتي كان هاشم بن عبد مناف هو أشهر أبطالها فقد كان التجار العرب يعبرون البحر الأحمر ما بين اليمن والسودان خلال فترة الشتاء، أدت إلى التواصل بين العرب وسكان المنطقة. 4. تبلور الوجود العربي في المنطقة إلى اختلاط العرب المهاجرين بالنوبة والزنج فنتج عن ذلك مزيج سكاني اختلطت فيه الدماء والأنساب والثقافات والأعراق ثم بدأ اللسان العربي في فرض وجوده بالمنطقة ممتزجاً مع الرطانات المحلية ونتجت عنه اللهجة السودانية التي تجمع في مفرداتها الكثير من المصطلحات النوبية القديمة بالإضافة إلى المصطلحات العربية. أما الوجود الإسلامي في المنطقة رغم الهجرة المبكرة للمسلمين إلى علوة فقد جاء متأخراً فقد كان التأثير الإسلامي على المنطقة محدوداً لفترات طويلة قبل أن يغلب الإسلام على المنطقة بعد سقوط دولة علوة على يد الفونج وعرب القواسمة والعبدالاب. السودانيون (بمزيجهم القومي ذي الإعراق المتعددة) اعتنقوا الاسلام في القرن السابع الميلادي ولم يدخل الإسلام فاتحاً بالجيوش كما حدث في بقية الأقطار العربية والإسلامية. وانتشر الإسلام بالتدرج بين النوبة والعرب الزنوج ليحل محل المسيحية في ممالكها الثلاث والتي لم تكن متأصلة في قلوب أهل تلك المنطقة فقد كانوا يجمعون بين الثقافات الوثنية القديمة والديانة المسيحية التي لم يكن ولاؤهم لها بالقوة التي تقف في وجه انتشار الإسلام. يتبع.

منقول من منتديات العيلفون جنة عدن