أذكر جيداً أنني فتحت عيني على بيت مليء بالحياة والحركة. أم سلمة وإسماعيل وعلي وإسحاق وختم وصفية ومعنى .. سبعة إخوة وأنا ثامنهم، كان معنى أخي الذي يصغرني مباشرة، ولم يكن أنور أخي الأصغر قد ولد بعد.. قد أذكر أيام الطفولة المبكرة، المبهرة، أذكرها جيداً، “نَبَّاه مانديد” – حين يصعد على الدرجة الأولى أو الثانية من المئذنة وهو ينشد لتنبيه الناس لصلاة الفجر قبل الأذان، (وهى بدعة كانت منتشرة في كثير من قرى السودان)، ومانديد هو أحمد التوم مانديد رحمه الله- ، ومناداته لصلاة الفجر،: (يا غافلاً عن ذكر مولاه، العمر مضى والشيب والاه) وأذان الفجر، وصلاة أبي على سجادة الفروة، المصنوعة من جلد الخروف المدبوغ، ولا تصنع إلا من جلد خروف ذي فراء جميل، وتمتماته صباحاً بقراءة سورة ياسين. وكنت أتبين منها الآية والآيتين أحياناً.. وكنت أسمعه يقرأ: (وجعلنا من بين أيديهم سُدَّاً ومن خلفهم سُدَّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون) وكان يقرأ برواية الدوري .
كان بيتنا هو الذي يقع خلف مسيد الشيخ إدريس بن محمد الأرباب مباشرة، بيننا وبينه زقاق ضيق، ولكن العربات كانت ومازالت تمر فيه، ولا زلت أعجب كيف تفعل ذلك. وكنت أظن أن هذا البيت هو لنا نملكه جميعه، وكان هو مرتع صباى ومكان لعبي، إلا أنه كانت به غرف كثيرة خالية، وكانت أحياناً تؤجر داخليات لطلاب المدرسة الوسطى، وبالحوش الداخلي بعض أشجار النيم الظليل. ومزيرة لماء الشرب على يمين الداخل كان تلاميذ المدرسة الوسطى يتسابقون في القفز من على سقفها ويقدمون الجوائز للفائزين. والبئر على يسار الداخل من الباب الأمامي عند الحوش الخارجي، وفرندة أو “برندة” كما كان أهل السودان يسمونها، وغرف أخرى كبيرة الحجم عالية السقوف.
وقد علمت من بعد أن هذا البيت كان ورثة لجدي الأكبر وكان منه نصيب لجدتي عائشة بنت الفكي “الفقيه” علي، هو الذي بقيت فيه جدتي عائشة وبنتها أمي السارة بنت محمد علي النصري يرحمها الله، وكان لأبي بيت كبير ورثه من أمه “ريا بت ود أحمد” (بنت ولد أحمد) وتنازل عنه لأخته وأبناء أخته.. وكانت له أراض بقرية أم دوم، قيل لنا إنه تنازل عنها بعد وفاة أخيه عثمان لأقاربه بأم دوم براً بهم وصلة للرحم. وجاء ليبقى مع أمي في بيتها الذي ورثته عن أمها..