في انتظار القطار
ل د. عمر فضل الله
على الغلاف يطالعنا قطار ما، صورة لمحمد علي باشا، وصورة لأجنبي، و بالبحث عنه في جوجل قبل القراءة دلني على أنه”جورج بثيون انجليش” مغامر ودبلوماسي وعسكري أمريكي عمل لدى جيش والي مصر محمد علي وأعلن اسلامه . ودائرة صفراء كبيرة يظهر فيها نصف جسد امرأة ما، وجنديان أحدهما فاتح البشرة والآخر أسمر يقفان إلى جوار راية علم مصر قديمًا .. وكذلك دائرة صفراء أصغر بها نبتة لبلاب متسلقة.. يالها من مجموعة أشياء تحثنا على القراءة والبحث.. يهدي الكاتب عمله بكل حب إلى كل محب فرقته الحروب الظالمة عن أحبابه، وإلى كل روح أزهقت ظلمًا، وإلى كل باحث عن السلام. يصيح الأمين في الأولاد -قبل الناس- أن لا يشعلوا الحروب، ويحكي لهم قصة سعد وسعدية مرارًا وتكرارًا.. هكذا أبلغ صديق البطل صديقه أثناء انتظار القطار في قرية جنوب مدينة بربر بالسودان. ومن هنا بدأت الحكاية، حكاية سعد وسعدية اللذين كبرا سويا وتحابا ففرقت بينهما الحروب. سعد الذي وضع رأسه على تراب بلاده فحكت له الأرض حكايتها بكل شمم وإباء. ها هو سعد في طريقه إلى قريته بجوار مدينة بربر بعدما خاب أمله في الدراسة الأزهرية في ظل حكم الوالي محمد علي، إلا أنه يعود كقائد لمركب ومعها عدة مراكب بها إسماعيل باشا ابن الوالي ومعه رفقة كبيرة من الجيش والأجانب. ترى لم هذه الحملة الكثيرة العتاد والتي ظاهرها التخلص من المماليك ولكنها تخفي الكثير.. تخفي سطوة الحكم والاستيلاء على بلاد مسلمة دخلها الإسلام دون فتح كما يقول سعد. فهل يعود سعد إلى بيته كجاسوس وخائن وماذا ستكون ردود أفعال والديه وحبيبته سعدية؟! تناوب الكاتب الحديث بالتبادل مرة عن سعد بلسانه ومرة عن سعدية بلسان سعد أيضًا فنرى الأهازيج التي يتغنى بها أطفال بربر وألعابهم، والعادات وحب النيل الذي يجري في دماهم. نجده يطرح بين أيدينا كلمات من ذهب علها تجد صدى في دواخلنا: “لكن يقال إن الأطفال يرون في المستقبل القريب بفراسة الطفل البريء ما لا يراه الكبار الذين طمست براءتهم الأيام وأعمى بصيرتهم كسب الآثام”. وما أجمل أن يتغزل سعد بسعدية قائلًا: “ولو كنت شاعرًا لكتبت فيك ما لم يكتبه أعظم شعراء الحب من قصائد، فأنت قصيدتي الخالدة، بل أنت معلقتي التي لم يقلها شاعر من البشر، لكنها معلقة في كعبة قلبي تحاكي دقاته بحورها وأوزانها، ويرقص على نظمها وإلقائها”. أو يقول عن الأسلحة: “لاحظت أن أسلحة الأتراك موشاة بالفضة، ومزخرفة بالزينة والنقوش. يا ترى هل يظن هؤلاء أن تزيين السلاح سيجعل القتل رحيماً؟ أو أن الأرواح التي يزهقونها ستقف برهة تتأمل جمال البندقية وزينتها قبل الصعود إلى السماء، أم أن الذبح بالسيف الموشى فيه شرف للقاتل أو المقتول أكثر من إراقة الدم بالسيف العاطل؟ فالقتل هو القتل في نهاية الأمر”. وكما نقرأ عن سعد وسعدية فلابد لنا وأن نعلم الكثير عن محمد علي وولده إسماعيل، وعن الطوبجي”قائد المدفعية” جورج إنجليش، وكايو، ولينان، وصولت، والقوزدغلي، والمك نمر، وغيرهم .. كذلك سنقرأ عن النهب وسلب الآثار والقتل والاغتصاب.. كل هذا جاء بصورة أدبية فنية بعيدة عن التأريخ الأكاديمي الذي يرهق القراء كثيرًا.. ما أصعب وطء اللغة حينما تكشف الستار عن المذابح والقتل والتمثيل بالجثث حتى أن إسماعيل باشل كان يكافيء من يأتي له بأذنين لأي قتيل في الحرب، ليرسل كل هذه الآذان المصلَّمة إلى والده محمد علي ليشهد على نجاحه.. وما أوجعها من كلمات حينما يقارن جورج انجليش شجاعة واعتداد نفس الهنود الحمر في أمريكا بشجاعة زعماء القبائل والمدن السودانية.. وما أشدها على القاريء حينما يرى الحرائر من النساء يلقين بأنفسهن جماعات في النهر قبل أن يمسهن جند الأتراك بسوء.. لغة الكاتب لغة عربية فصحى، كما تعلمنا معه كلمات سودانية فسر لنا معناها وهذا شيء يحسب جيدًا للكاتب وإلا فكيف لقاريء غير سوداني معرفة معنى كلمة شَنْقَاقَة مثلاً..
شكرًا د. عمر على هذا العمل المبدع الجميل .. مع خالص أمنياتي بمزيد من الإبداع..