shar7alloma3شرح اللمع للأصفهاني

اللمع في العربية – ابن جني

أبو الفتح عثمان بن جني المشهور بـابن جني عالم نحوي كبير ولد بالموصل عام 322 هـ، ونشأ وتعلم النحو فيها على يد أحمد بن محمد الموصلي الأخفش1 ويذكر ابن خلكان أن ابن جني قرأ الأدب في صباه على يد أبي علي الفارسي حيث توثقت الصلات بينهما، حتى نبغ ابن جني بسبب صحبته، حتى أن أستاذه أبا علي، كان يسأله في بعض المسائل، ويرجع إلى رأيه فيها. على الرغم أن ابن جني كان يتبع المذهب البصري في اللغة إلا أنه كان كثير النقل عن أناس ليسوا بصريين في النحو واللغة وقد يرى في النحو ما هو بغدادي أو كوفي، فيثبته. التقى ابن جني بالمتنبي بحلب عند سيف الدولة الحمداني كما التقاه في شيراز، عند عضد الدولة وكان المتنبي يحترمه ويقول فيه: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وكان إذا سئل عن شيء من دقائق النحو والتصريف في شعره يقول: سلوا صاحبنا أبا الفتح». ويعد ابن جني أول من قام بشرح أشعار ديوان المتنبي وقد شرحه شرحين الشرح الكبير والشرح الصغير، ولم يصل إلينا في العصر الحديث سوى الشرح الصغير.
كان ابن جني يثني دوما على المتنبي ويعبر عنه بشاعرنا فيقول: «وحدثني المتنبي شاعرنا، وماعرفته إلا صادقا». وكان كثير الاستشهاد بشعره. بلغ ابن جني في علوم اللغة العربية من الجلالة ما لم يبلغه الا القليل ويبدو ذلك واضحا في كتبه وأبحاثه التي يظهر عليها الاستقصاء والتعمق في التحليل، واستنباط المبادئ والأصول من الجزئيات. اشتهر ببلاغته وحسن تصريف الكلام والإبانة عن المعاني بوجوه الأداء ووضع أصولا في الاشتقاق ومناسبة الألفاظ للمعاني.
له ما يفوق الخمسين كتابا، أشهرها كتاب الخصائص الذي يتحدث فيه عن بنية اللغة وفقهها. يرد بعض الباحثين اهتمام ابن جني بالصرف لأبعد الحدود إلى حادثة وقعت له وهو صغير عندما عجز أمام أبي علي الفارسي في أول لقاء بينهما في مسألة قلب الواو ألفا. عاش ابن جني في عصر ضعف الدولة العباسية ومع ذلك فقد وصل ابن جني إلى مرتبة علمية لم يصل إليها إلا القليل.

شيوخ ابن جني وتلاميذه
ذكر ياقوت في معجمه أن ابن جني صحب أبا علي الفارسي أربعين سنة، وكان السبب في صحبته له أن أبا علي اجتاز بالموصل فمر بالجامع وابن جني في حلقةٍ يُقرئ النحو وهو شاب (قيل إن عمره كان سبع عشرة سنة)، فسأله أبو علي الفارسي عن مسألةٍ في التصريف فقصر فيها ابن جني، فقال له أبو علي: زببت وأنت حِصرِم، فسأل عنه فقيل له: هذا أبو عليٍ الفارسي، فلزمه من يومئذٍ وسافر معه وسكن بغداد، واعتنى بالتصريف، قال ياقوت: “فما أحد أعلم منه به ولا أقوم بأصوله وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه”. ولما مات أبو علي الفارسي تصدر أبو الفتح ابن جني في مجلسه ببغداد -وكان قد صنف في حياته- وأقرأ بها الأدب، وقد أخذ عنه الثمانيني، وعبد السلام البصري، وأبو الحسن السمسمي، وقام أيضًا بالتدريس لأبناء أخي الحاكم البويهي.
ويبدو أنه كانت لابن جني رحلات إلى بلاد كثيرة في طلب العلم ومشافهة العلماء والشيوخ، والدليل على ذلك تلك الإجازة التي ذكرها ياقوت في ترجمته في معجمه، والتي جاء فيها: “… فليرو -أدام الله عزه- ذلك عني أجمع إذا أصبح عنده وأنس بتثقيفه وتسديده، وما صح عنده -أيده الله- من جميع رواياتي مما سمعته من شيوخي -رحمهم الله- وقرأته عليهم بالعراق والموصل والشام، وغير هذه البلاد التي أتيتها وأقمت بها مباركًا له فيه منفوعًا به بإذن الله…”.

ابن جني.. الأديب الشاعر
لم يكن ابن جني إمامًا في النحو والصرف فقط، ولم يكن من العلماء الذين يقتصرون على مجالس العلم والتعليم، أو حتى التأليف، إنما كان ابن جني كمن يريد أن يملك نواصي اللغة، فهو إلى جانب ما سبق يعد من أئمة الأدب، جمع إتقان العلم إلى ظرف أهل الكتابة والشعر، وهو الأمر الذي جعل الثعالبي ينعته في يتيمة الدهر بقوله: “إليه انتهت الرياسة في الأدب”، وقال الباخرزي في دمية القصر موضحًا: “ليس لأحدٍ من أئمة الأدب في فتح المقفلات، وشرح المشكلات ما له؛ فقد وقع عليها من ثمرات الأعراب، ولا سيّما في علم الإعراب”. وكدليل مادي على ذلك، فقد أثبت ياقوت في معجمه عن خط أبي الفتح بن جني خطبة نكاحٍ من إنشائه يقول فيها: “الحمد لله فاطر السماء والأرض، ومالك الإبرام والنقض، ذي العزة والعلاء، والعظمة والكبرياء، مبتدع الخلق على غير مثالٍ، والمشهود بحقيقته في كل حالٍ، الذي ملأت حكمته القلوب نورًا، فاستودع علم الأشياء كتابًا مسطورًا، وأشرق في غياهب الشبه خصائص نعوته، واغترقت أرجاء الفكر بسطببة ملكوته. أحمده حمد معترف بجزيل نعمه وأحاظيه، ملتبسًا بسني قسمه وأعاطيه، وأؤمن به في السر والعلن، وأستدفع بقدرته ملمات الزمن، وأستعينه على نوازل الأمور، وأدرئه في نحر كل محذور، وأشهد شهادةً تخضع لعلوها السموات وما أظلت، وتعجز عن حملها الأرضون وما أقلت، أنه مالك يوم البعث والمعاد، والقائم على كل نفسٍ بالمرصاد، وأن لا معبود سواه، ولا إله إلا هو، وأن محمدًا -وبحل وكرم- عبده المنتخب، وحجته على العجم والعرب، ابتعثه بالحق إلى أوليائه ضياءً لامعًا، وعلى المراق من أعدائه شهابًا ساطعًا، فابتذل في ذات الله نفسه وجهدها، وانتحى مناهج الرشد وقصدها، مستسهلاً ما يراه الأنام صعبًا، ومستخصبًا ما يرعونه بينهم جدبًا، يغامس أهل الكفر والنفاق، ويمارس البغاة وأولى الشقاق، بقلبٍ غير مذهولٍ، وعزمٍ غير مفلول يستنجز الله صادق وعده، ويسعى في خلود الحق من بعده، إلى أن وطد بوانى الدين وأرساها، وشاد شرف الإسلام وأسماها، فصرم مدته التي أوتيها في طاعة الله موفقًا حميدًا، ثم انكفأ إلى خالقه مطمئنا به فقيدًا، ما ومض في الظلام برق، أو نبض في الأنام عرق، وعلى الخيرة المصطفين من آله، والمقتدين بشرف فعاله. وإن مما أفرط الله تعالى به سابق حكمه، وأجرى بكونه قلم علمه، ليضم بوقوعه متباين الشمل، ويزم به شارد الفرع إلى الأصل، أن فلان ابن فلان وهو -كما يعلم من حضر من ذوي الستر وصدق المختبر- مشجوح الخليقة، مأمون الطريقة، متمسك بعصام الدين، آخذ بسنة المسلمين، خطب للأمر المحموم، والقدر المحتوم، من فلان بن فلان الظاهر العدالة والإنصاف، أهل البر وحسن الكفالة والكفاف، عقيلته فلانة بنت فلانٍ خيرة نسائها وصفوة آبائها في زكاء منصبها وطيب مركبها، وقد بذل لها من الصداق كذا وكذا، فليشهد على ذلك أهل مجلسنا، وكفى بالله شهيدًا، ثم يقرهما ثم يقال: لاءم الله على التقوى كلمتيكما، وأدام بالحسنى بينكما، وخار لكما فيما قضى، ولا أبتركما صالح ما كسا، وهو حسبنا وكفى”.اهـ
والخطبة تنبئ بنفسها على ما فيها من جزالة اللفظ وبلاغة الأسلوب وجماله.

الخصائص.. وأصول النحو
ما إن يذكر ابن جني حتى يشرد الذهن عفو الخاطر إلى كتابه الشهير “الخصائص”، وبالمثل إذا كان الحديث عن “الخصائص” فإنه يذهب إلى مؤلفه ابن جني، والخصائص هذا هو أجلّ تآليف ابن جني التي أبر بها على المتقدمين وأعجز المتأخرين، والتي عناها في بائيته بقوله:
تناقلها الرواة لها *** على الأجفان من حدب
فيرتع في أزاهرها*** ملوك العجم والعرب
فمن مغن إلى مدنٍ *** إلى مثنٍ إلى طرب
وهو كتاب في أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه، احتذى ابن جني في مباحثه النحوية منهج الحنفية في أصول الفقه، وقد بناه على اثنين وستين ومائة بابا، تبدأ بباب القول على الفصل بين الكلام والقول، وتنتهي بباب في المستحيل وصحة قياس الفروع على فساد الأصول، وقد أهداه لبهاء الدولة البويهي، الذي ولي السلطنة من سنة تسع وسبعين وثلاثمائة إلى ثلاث وأربعمائة من الهجرة، وذلك بعد وفاة أستاذه أبي علي الفارسي (ت 377هـ). والكتاب وإن كان يبحث في خصائص اللغة العربية، وتهتم أغلب مباحثه بما يخص فلسفة تلك اللغة ومشكلاتها، إلا إنه اشتمل أيضا على أبواب من شأنها أن تخرج عن هذا النطاق، وذلك كبحثه في الفرق بين الكلام والقول، وبحثه في أصل اللغة: إلهام هي أم اصطلاح؟ وغيرها، وفي ذلك يقول ابن جني:
“… وليكون هذا الكتاب ذاهبًا في جهات النظر؛ إذ ليس غرضنا فيه الرفع والنصب والجرّ والجزم؛ لأن هذا أمر فُرغ منه في أكثر الكتب المصنَّفة فيه، وإنما هذا الكتاب مبنيّ على إثارة معادن المعاني، وتقرير حال الأوضاع والمبادئ، وكيف سرت أحكامها في الأحناء والحواشي…”. ومما يُعد من النوادر في كتابه هذا مثل هذه الأبواب: الباب الخامس والأربعون بعد المائة في القول على فوائت الكتاب لسيبويه، الباب الحادي والخمسين بعد المائة فيما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية، الباب الثامن والخمسين بعد المائة في سقطات العلماء. وقد طبع الخصائص لأول مرة في مصر سنة (1331هـ/ 1913م) (جزء منه)، ثم طبع كاملاً بتحقيق الأستاذ محمد على النجار في ثلاثة أجزاء ما بين (1952 و1955م)، مع مقدمة جليلة، وضح فيها أثر الكتاب في أعمال النحويين من بعده، وقد عقد فصلاً نبه فيه إلى كثرة النصوص التي نقلها عنه ابن سيده بلا عزو، حتى إنه استعار عبارته ذاتها في وصف حاله فقال: (فوجدت الدواعي والخوالج قوية التجاذب… إلخ). وفي عام سبعة وتسعين وتسعمائة وألف من الميلاد أصدر معهد المخطوطات العربية في القاهرة (الفهارس المفصلة لابن جني)، وكانت الحلقة الأولى ضمن سلسلة (كشافات تراثية) صنعه د. عبد الفتاح السيد سليم، ويضم ستة عشر فهرسًا، منها: إحدى وتسعين مسألة في أصول اللغة، وخمس وخمسين مسألة في العلل النحوية،
وإحدى وثمانين مسألة في اللغات، وأيضا فهرس الآيات المحتج بها في الخصائص وهي ست وعشرين وثلاثمائة أية، وكذلك فهرس الكتب المذكورة في الكتاب، وهي إحدى وثلاثين كتابًا، وفيه أيضا ما يختص بنقوله عن العلماء في الكتاب، وكان ذلك في ثمان وتسعين وثلاثمائة مسألة، الغالب منها عن شيخه أبي علي الفارسي، ثم عن سيبويه والأخفش والأصمعي والمازني وأبي زيد والفراء والمبرد والخليل وثعلب والكسائي، وغيرهم.

مؤلفات ابن جني
في معجمه أورد ياقوت إجازة كتبها ابن جني لأحد تلاميذه، وهو الشيخ أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن نصر، وذلك في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع وثمانين وثلاثمائة من الهجرة، أي قبل وفاته بنحو ثماني سنوات، أورد فيها معظم تواليفه إن لم يكن كلها، وقد جاء في أولها:
“قد أجزت للشيخ أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن نصر -أدام الله عزه- أن يروي عني مصنفاتي وكتبي مما صححه وضبطه عليه أبو أحمد عبد السلام بن الحسين البصري -أيد الله عزه- عنده منها…”، ثم ذكر من الكتب التالية:
* الخصائص.
* التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله السكري.
* سر الصناعة.
* تفسير تصريف المازني.
* شرح المقصور والممدود لابن السكيت.
* تعاقب العربية.
* تفسير ديوان المتنبي الكبير، ويسمى الفسْر.
* تفسير معاني ديوان المتنبي، وهو شرح ديوان المتنبي الصغير.
* اللمع في العربية.
* مختصر التصريف المشهور بالتصريف الملوكي.
* مختصر العروض والقوافي.
* الألفاظ المهموزة.
* المتقضب.
* تفسير المذكر والمؤنث ليعقوب (ذكر أنه لم يتمه)… إلخ.
وفاة ابن جني
في بغداد، وفي خلافة القادر، وتحديدًا يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة من الهجرة (392هـ) رحل ابن جني عن دنيا الناس، تاركًا مؤلفاته وذخائره العلمية تتحدث عنه، وتحييه بينهم من جديد.
————————
المراجع:
– اليافعي: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان (1/394).
– ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (1/457).
– الثعالبي: يتيمة الدهر (1/33).
– ياقوت الحموي: معجم الأدباء (2/1).
– الباخرزي: دمية القصر وعصرة أهل العصر (1/230).
– ابن خلكان: وفيات الأعيان (3/246).
– ابن الجوزي: المنتظم (4/297).
– الذهبي: سير أعلام النبلاء (17/17).
– الذهبي: العبر في خبر من غبر (1/172).
– الذهبي: تاريخ الإسلام (6/370).
– الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد (5/163).
– ابن كثير: البداية والنهاية (11/379).
– الباباني: هدية العارفين (1/345).
– ابن النديم: الفهرست (1/95).
– القنوجي: أبجد العلوم (3/32).
– الزركلي: الأعلام (4/204).- رحاب خضر عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام (3/100).
– موقع الموسوعة العربية العالمية.