لتحميل رواية أطياف الكون الآخر انقر على الرابط أدناه:
02_Atyaf_Alkawn_Alakhar

ququm1
هششش!!! هدوووء. أخفض صوتك.. هل سمعت صوته وهو يتحرك؟ لم تسمعه؟ ألا تسمع ما أسمعه الآن؟ يوجد عفريت معنا في هذا المكان!. لا تصدق؟ ولا تؤمن بالعفاريت؟ ولا الأشباح؟ معقول؟ جميل.. لكن.. أنا نشأت في مجتمعات الخرافة، وبيئات الزار والودع والمندل والفنجال والأشباح الهائمة في الطرقات. الكل مشغول بهم، والكبار من أهلنا يخيفوننا بذكرهم حين كنا صغاراً ويحذروننا من الخروج وحدنا ليلاً حتى لا يظهر لنا “الغول” و”السحار” في الطرقات، أو يتفلت علينا “العفريت” الذي يسكن الكُوَش والخرابات. وقلما تجد امرأة من بني قومي لا تؤمن أن معها أحد العفاريت أو الأسياد.. ورغم أن التعليم المبكر أكسبنا وعياً جعلنا نسخر من أقراننا الذين يخافون من عالم الجن والأشباح والعفاريت، إلا أنه بقيت في دواخلنا رغبة مكبوتة في استكناه هذا العالم الغامض المجهول الذي استحوذ على القصص والحكايات، وغزا العقول ونسجت حوله الأحاجي والأساطير، فقد كان بعضها مسلياً رغم كونه غير منطقي. وحينما تتجاوز المراهقة وتنضج وتتقدم في المراحل التعليمية تستطيع أن تزن الأمور بميزان الدليل والعقل والحجة والمنطق، وتصبح حكاية ظهور العفاريت والأشباح عندك أمراً غير مقبول ولا يمت لعالم الواقع الحديث بصلة. وتتغير نظرتك وفهمك حين تشاهد الأفلام التي تتناول هذا الأمر فتقابلها بكثير من الاستهزاء، وتعتقد أن من يصدق هذه الأكاذيب لابد أن يكون مصاباً برهاب الخوف من المجهول، أو يعاني من عقدة نفسية، وأنه حتماً يحتاج أن يزور الطبيب المعالج. ولكن رغم هذا تبقى في ذهنك تساؤلات كثيرة لا تجد لها إجابة مقنعة، وتسأل نفسك هل كل هذه القصص عن ظهور الأشباح والجن والعفاريت على مدار التاريخ خرافات أنشأها الإنسان ليبرر خوفه وعجزه، أم أنه عالم موجود بالفعل في هذا الكون وله قوانينه ونظامه؟ فلا ريب أن هناك جزءاً ولو يسيراً من أرض الحقيقة في بحر الخرافات والأساطير المتلاطم هذا، ولو كان موجوداً فهل هو موجود على أرض الحقيقة والواقع، أم أنه موجود في عقولنا فقط؟ ولكنك لا تجد ما يشفي غليلك فيبقى هذا العالم الغريب ضرباً من التخرصات والأوهام في عقلك، ومادة للبحث والتحري والتقصي. ولا بد أن البعض منكم سيوافقني أن هناك الكثير من المعلومات الغائبة، أو غير المؤكدة عن هذا العالم الافتراضي، فلا يوجد شخص ذهب إليه على الحقيقة ثم عاد يحكي عنه، إلا ما أشيع من أحاديث “خرافة” الذي زعموا في القديم أن الجن قد اختطفوه فعاش معهم زمناً ثم عاد يحدث بما رأى فلم يصدقه الناس ونسبوا إليه اللامعقول، فكانوا يقولون للحديث الغريب الذي لا تقبله العقول: “حديث خرافة” أو ما يتناقله الناس عن امرأة أو فتاة خطفها الجن ثم هربت منهم وعادت تحكي والناس يقابلون ذلك بالريب والظنون.
وحين تسافر إلى البلاد المتقدمة تفاجأ بعالم آخر قد تقدم في العلوم التجريبية والتقنية، ولكنه رغم ذلك مازال يؤمن بالسحر والخرافة، ويتعامل مع العوالم الأخرى بطرق شتى، فيوقد فيك الرغبة الملحة في استطلاع هذا العالم الغامض الغريب باستخدام المداخل العلمية الصحيحة، وقراءة البحوث الأكاديمية والمؤلفات في عوالم ما وراء الطبيعة، وكل ما يمت لهذا الموضوع بصلة. وسرعان ما تصبح مثل دائرة المعارف في هذا المجال، ولكن كل تلك المعلومات لا تشفي تطلعاتك ونهمك للمعرفة وشغفك. ورغم أن هذا الموضوع لا يحرز مكانة متقدمة ضمن أولوياتك، لكنه يبقى في الذاكرة.
ماذا ستقول لو حكيت لك أن ما يلي حدث معي على سبيل القصص والحكايات:

حدث الراوي فقال:

“في العام الماضي زارني زائر غريب في إحدى الأمسيات. كنت يومها – ومازلت – في كامل عقلي ووعيي دائماً فأنا لا أتعاطى أي شيء يغيب عقلي، أو يؤثر على إدراكي. وحين سمعت الصوت في المرة الأولى ولم أر شيئاً حولي أدركت فوراً أن هذا الصوت ليس مألوفاً ولا يشبه صوت البشر ،كما أنه ليس صوت حيوان ولا طائر، وليس حفيف الأغصان قرب نافذتي، ولا وشوشة الريح وهي تلعب بستائر النافذة المفتوحة. كما أنني لم أترك صوت التلفاز مفتوحاً عندما جلست عند طاولة المكتب في غرفتي. وليس في البيت أحد غيري. وقبل ذلك كان الهدوء والسكون يلفان المكان إلا من صرير القلم وهو يجري فوق الطرس، أو صوت أنفاسي وهي تعلو وتهبط في رتابة.
– هذا أنا .. طيف التجلي.. هل أنت خائف مني؟
حين سمعت أول عبارة استطعت تمييزها على الفور. كانت واضحة ومفهومة. وأيقنت أن هناك مخلوقاً آخر معي في الغرفة. وأن هذا المخلوق ليس بشراً، ولا جسداً مرئياً، ولكنه يتحدث العربية بطلاقة، ويوشوش بها قريباً من أذني.
لا أخفي عليكم أنني شعرت في أول الأمر بثقل في أعضائي، وكهرباء تسري في جسدي كله. وربما كان هذا من أثر المفاجأة أو غرابة الأمر، وأؤكد لكم أنه لم يكن بسبب الخوف، فما اعتدت أن أخشى هذا العالم قط، فأنا أقرأ أذكار الصباح والمساء كل يوم، فأكسبتني طمأنينة لا تتزعزع، وثقة لا تهتز. وسرعان ما استجمعت تركيزي، واستعدت هدوئي النفسي والعصبي، وبقيت أتابع ما يحدث، بل وأستمتع به. وأول ما خطر في ذهني هو أنني بدلاً من أن أسعى إلى هذا العالم فقد جاءني يسعى على قدم وساق، أو على حافر وظلف أو جناح، سمه ما شئت فلا يهمني. المهم هو أنه قد وجدني وهو الآن معي، ويقيني أنه سيفتح لي باباً من التجارب وربما المعرفة. من يدري؟
كنت ابتسم وأنا أراقب حركته وهو يحاول الاقتراب بحذر شديد حتى لا يرعبني – حسب ظنه – وهو محق في هذا، فلا يوجد أحد يسمع هذا الصوت دون أن يفقد وعيه من الخوف، أو عقله من الرعب، فهذا الذي حدث شاذ في طبيعة الأشياء وغير مألوف. ولكنني على العكس من توقعاتكم لم أرتعب، بل كدت أنفجر ضاحكاً من محاولاته التي تشبه محاولات طفل ساذج حين يرغب بشدة في الاستحواذ سراً على قطعة من الحلوى، لكنه يخشى أن تنتبه أمه فتمنعه من الحصول عليها. وأردت أن ألاعبه قليلاَ قبل أن أستجيب له وأكلمه فيطمئن إلى أنني أتقبل وجوده معي بل ومشاركته الحديث. وعجبت لحرصه الشديد على الاقتراب والحديث وسعيه إليه، فأنا أعلم جبن هذه المخلوقات وخوفها من البشر الذين يذكرون الله ويلجأون إليه.
وحين أذعنت لرغبته الملحاحة آخر الآمر أدركت أنه يرغب في أن يتكلم، وأن يتكلم كثيراً، ثم فهمت أنه يرجوني أن أدون ما يمليه وأنشره للناس. ولم أجادله أبداً، فقد رأيت أن هذه تجربة جديرة بالتوثيق، وكنت تواقاً إلى أن أعلم إلى أين تقودني، وإلى أي شيء ستنتهي، وربما تصبح بحثاً مفيداً، أو أؤلف منها كتاباً، أو رواية أهديها للقراء. وحاولته حتى يتجلي لي فأراه لتكتمل الصورة والصوت في عقلي، ولكنه لم يفعل. وكنت أتوق لرؤيته في أي شكل من الأشكال – المألوفة بالطبع – ولكنه اعتذر بأنه قد تعب من تقمص الشخصيات والتجسد، فآثر أن يبقى على طبيعته لأنه مرتاح في ذلك الوضع، كما أنه يخشى أن يشغلني عن الكتابة والتدوين، فما اختارني إلا لأدون مذكراته وأنشرها للناس. ولم أتردد لحظة واحدة، فقد كنت ممسكاً بالقلم، وكان دفتر التدوين حاضراً، فتركت أناملي تنساب طوعاً لتكتب ما يمليه. وعلى الفور سكت ذلك الصوت، ورأيت القلم الذي أمسكه بين أناملي يتقافز منزلقاً فوق الصفحات يكتب ويكتب دون هوادة، وكأن شخصاً آخر غيري يمسكه ويحركه ليكتب هذا الكلام، وكأن يداً أخرى غير يدي تكتب. وفي حين كان ضمير الغيب عندي ينطلق طوع إرادته ويكتب ما يمليه، كان ضمير الحضور في عقلي المدرك يعلم تمام العلم أن هذا طيف قد ضل طريقه إلى عالم البشر، وأنه قد وجدها فرصة ليملي مذكراته على رجل منهم ليقوم بنشرها وعرضها على الناس، فدونكم مذكرات هذا الطيف التائه لتقرأوها وتستمتعوا بها، مثلما فعلت أنا حين كتبتها!!
الراوي