منذ السنوات الأولى التي أمسكت فيها بالكتابة، كنتُ أبحث عن صوتٍ أدبيّ يوقظ شيئًا في داخلي، عن كاتبٍ لا يقدّم رواية للتسلية فقط، بل يفتح أمامي أبوابًا جديدة للفهم والمعرفة. حتى وقعتُ على أعمال الدكتور عمر فضل الله، ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلتي معه — رحلة قارئٍ يتعلّم، وكاتبٍ يتشكّل، وإنسانٍ يعيد اكتشاف هويته الكتابية وعمقه.
لم أكن أتوقّع أن تقودني قراءة رواية إلى هذا القدر من التحوّل، لكن مع كل عمل له، كنت أجدني أمام عالمٍ جديد، ورؤية مختلفة، وتاريخ لم يسبق أن رأيته بهذا الجمال وهذا الاتساع.
كنتُ في البداية أظن أنني أقرأ رواية، فإذا بي أقرأ الأرض نفسها؛ تاريخًا، ذاكرة، بشرًا، تقاليد، مدنًا، حضارات، صراعات، ونبضًا إنسانيًا يسير بين السطور كأنما حياة كاملة بُعثت من جديد.
وحين انتهيت من «أطياف الكون الآخر» و«رحلة طيف»، أحسست أنني لا أقرأ سردًا، بل أعبر بوابة معرفية إلى حضارات الأرض، أتنقّل بين أمم وثقافات، وأتفكّر في الإنسان قبل أن أتفكّر في الحكاية.
ثمّ جاءت «ترجمان الملك» — تلك الرواية التي لن أنسى أثرها — لتكشف لي أن التاريخ ليس مجرد معلومات تُحفظ، بل حياة كاملة تُعاش، وأن الكاتب الحقيقي لا يروي الماضي، بل يُحييه.
وقفتُ أمام «ترجمان الملك» طويلًا. قلت في نفسي: كيف تمكّن من هذه المعرفة الدقيقة؟ كيف استطاع أن يُعيد بناء «علوة» المسيحية بهذا الإتقان؟ كنتُ لو قرأت ذلك في كتب التاريخ لمللت، ولكن السرد جعلني أشعر بأنني أعيش داخل القصَّة، أسمع صهيل الخيول، وأشم رائحة المدن القديمة، وألمسُ الحجارة التي مرّ عليها الزمن.
حينها أدركت سرّ قوة عمر فضل الله: إنه لا يكتب التاريخ، بل يستحضره.
ثمّ جاءت «أنفاس صليحة»… رواية لو أراد قارئ أن يحصل على ربع معلوماتها، لاحتاج عامًا من القراءة المتفرقة في المراجع والكتب. لكنها جاءت مركّزة، ممتلئة، سلسة، تتجوّل في المغرب، والصحراء، وبلاد النوبة، وتصف النبات والطير والحيوان والقبائل والوباء والسفر، كأنها رحلة معرفية وروحانية في آنٍ واحد.
وجدتني أسافر مع «صليحة» وكأني أمسك يدها، أعبر معها المخاوف، وأرى العالم بعينيها. تلك الرواية وحدها جعلتني أؤمن بأن الكاتب يمكن أن يكون باحثًا ومؤرخًا وفيلسوفًا في الوقت نفسه.
وفي «تشريقة المغربي» اكتشفت مملكتي سنار والعهد السناري بوجهٍ لم أقرأ له مثيل. كأن الرواية ليست نصًا، بل وثيقة حية. تعلّمت منها عن الشلوخ، وعن المناظرات، وعن التبغ حين دخل السودان، وعن السياسة، وعن النظام القبلي، وعن مؤامرات القصور والمكائد، وعن الإنسان قبل كل ذلك.
وهنا، أدركت لأول مرة علاقة الرواية بالهوية: كيف يُمكن لكاتب واحد أن يعيد لك الفخر بتاريخك، وأن يفتح عينيك على تاريخ أجدادك بغير الخطب ولا الشعارات.
جاءت بعد ذلك «في انتظار القطار»، فاهتزّ قلبي لها. ليس لأنها قصة حب رقيقة بين سعد وسعدية فقط، بل لأنها كانت نافذتي على زمن الغزو التركي المصري للسودان.
قرأت مشاهد الوحشية، والبكاء، والنهب، ورأيت كيف كانت البلاد تحت القهر، وكيف قاوم الناس، وكيف تغيّرت الخرطوم.
ولأول مرة شعرت بأن التاريخ ليس شيئًا بعيدًا عني، بل هو شيء من دمي ومن روحي.
ثمّ قرأت «رؤيا عائشة» — ذلك العمل الذي يروي الدولة المهدية من منظور لا يعرفه كثيرون — منظور فيه الإنشاد الروحاني، فيه الشعر، فيه الحس الإسلامي العذب، وفيه إعادة تشكيل صورة زمن بكامله.
وفي «آدم أسود وحواء بيضاء» رأيت سقوط الدولة المهدية ومعركة كرري بعيون بشر، لا بعيون كتب. عشت المعاناة، والدمار، والفقر، والظلم، وكأن الرواية تعيد إليك المشاعر التي لا يمكن للتاريخ أن يوصلها مهما حاول.
ثم جاءت «نيلوفوبيا» — إحدى أغنى الروايات النفسية التي قرأتها — لتكشف لي عالمًا آخر: عالم المرض النفسي، الخوف، فقدان الصديق، أثر الصدمات على الطفولة، وكل ذلك داخل إطار اجتماعي وسياسي واقعي ودقيق.
وأخيرًا… «نافذة في سماء الكهرمان» — رواية علمية فلسفية عن ميكانيكا الكم والسفر عبر الزمن — جعلتني أحرّر ذهني، وأصدّق أن الرواية يمكن أن تجمع العلم والفلسفة والخيال والمعرفة في قالب واحد جميل.
ومع كل رواية، كنت أشعر أنني أتغير. أنني أتثقّف دون أن أشعر. أنني أتعلم دون أن أبحث. أن ذائقتي ترتقي، وأن لغتي تنمو، وأن رؤيتي للكتابة تتحسّن.
تعلمت منه أن الرواية ليست سردًا فقط، بل إعادة تركيب للوجود.
تعلمت أن الكاتب لا يكفي أن يكون صاحب خيال، بل يجب أن يكون صاحب معرفة.
وتعلمت أن الكتابة مسؤولية، وأن الكلمة قد تُحيي التاريخ وقد تُميتُه.
والأهم: تعلمت أن السرد الحقيقي ليس زخرفة لغوية، بل صدقٌ وعمقٌ وبناء حضاري.
ولهذا… حين أقول إنني أركز على عمر فضل الله، فليس ذلك ضيقًا بي ولا ضعفًا في سعة قراءاتي، وإنما لأن التجربة التي وجدتها عنده لم أجد مثلها مجتمعة عند غيره.
هو أستاذ، وقدرُه عندي عظيم، وأنا — مهما كتبت — فلن أصل مرتبه فأن أعتبره سقف للرواية العربية. لكن تأثري به ليس تقليلًا من نفسي؛ بل العكس. إنه وعيٌ بأن الإنسان يتعلم من العمالقة، لا من العابرين.
وهذا التركيز ليس تقييدًا لروعتي، بل هو الضوء الذي ساعدني أن أرى طريقي بشكل أوضح. فتأثري به كان جزءًا من رحلتي نحو امتلاك صوتي السردي الخاص — صوتٌ يتغذّى من معرفته، لكنه لا يتقمّصه؛ يستفيد من طريقته، لكنه لا يكررها؛ ينطلق من أثره، لكنه يشقّ دربه وحده.
وفي كل مرة أعود إلى رواياته، أعود لأتذكر لماذا أحببت الكتابة، ولماذا يستحق الأدب أن يُكتب بإخلاص، ولماذا يجب على كل كاتب أن يقرأ له:
لأن قراءته ترتقي بك… وتعيد تشكيلك… وتفتح فيك أبوابًا لم تكن تعرف أنّها موجودة.
اضف تعليقا