b368

afewerek***

“سُنْجَاتَا” كانت هي المخلوق الوحيد الذي تعلقت به. كنا نأتي كل يوم و
نجلس تحت شجرة الأراك ونحلم. ابتسامتها البريئة، ووجها الطفولي، وطعم فمها، وكلامها الذي يحملك إلى عالم مسحور. كانت لا تربط بين الأفكار، بل كل ما يخطر على بالها تقوله. وكان هذا يدهشني فكنت أطير معها في عالم الخيال الجميل الذي له أجنحة تحلق بك أينما تريد. كنا نبني معاً عوالم مسحورة في أفق الفضاء، أو في دنيا لم يرها إنسان. وكنا نعيش يومنا مع الطيور والحوريات وعالم الجن. كنا نبني قصوراً من الوهم على شواطيء الأحلام ونقطف الأزهار البرية من روضات الحدائق النائمة، عند السحر، والقمر قد سئم البقاء وحده في أفق الفضاء، فبدأ يتأهب للنوم. قالت لي “سُنْجَاتَا” يوماً:

– “سيس” لماذا لا يوجد قمران في أفق السماء؟

– القمر وحده لأنه يلعب مع الشمس لعبة المطاردة، فهو يهرب منها بالنهار. وحين يتأكد أنها قد ذهبت تبحث عنه وراء الأفق يأتي إلينا وحده متخفياً بالليل. ألا ترين أنه يبتسم ابتسامة ساخرة؟

– “سيس” أين ذهب أبوك؟

– أبي هو القمر الذي يهرب من أمي. أمي تجلس وحيدة في غرفتها كل ليلة مثل الشمس في كبد السماء.

– بجد يا “سيس” أين ذهب أبوك؟

– أبي هو “ملك ملوك الجن”، وهو في مهمة، وسوف يأتي قريباً من العالم السحري.

– “سيس” هل تحبني حقاً؟ عندما أكبر أريد أن أتزوجك. ونطير معاً فوق البحار. ونلعب لعبة الشمس والقمر. أريد أن تكون لي أجنحة أحلق بها في الفضاء. هل تصدق هذا؟

– ….

– سيس هل عندك شعر هنا؟

وأشارت إلى موضع عانتي من الخارج.

– أنت مجنونة !!

– أحلى شيء الجنون. “سيس” هل جربت يوماً أن تخلع كل ملابسك وتغلق الأبواب وترقص عارياً وتصيح بأعلى صوتك حتى يبح حلقك ثم تقفز عالياً وتسقط على الفراش؟ تعال نجرب هذا يوماً معاً، ولكنني لن أخلع ملابسي.

كانت “سُنْجَاتَا” مثالاً حياً لكل التناقضات المجنونة الموجودة في البشر. كانت أكثر الناس رقة، وأشدهم جنوناً. كانت منطلقة كمهر جامح في البرية لا يقدر عليه أحد. وكنت أحب هذا فيها. ولعل هذا الأمر قد دفعني حين كبرت قليلاً إلى ترويض المهارى الوحشية والحمير البرية والبغال الجامحة. ولكن “سُنْجَاتَا” اختفت فجأة من حياتي ولم أعد أراها. قصدتُ بيتهم كثيراً، ولكنه كان خالياً وبابه مغلقاً. لم أعرف يومها ما الذي حدث لها أو لأمها. أعرف أنها يتيمة الأب، وأن أمها، كانت تُشاهَدُ في بيت قائد الحرس كثيراً وكانت تعود إلى البيت سكرانة كل ليلة. أخبرني “عِبْدِي” بذلك وقال إن “سِمْبَا” هو الذي أخبره. حزنت لهذا، ومع الأيام ضمرت ذكراها في فؤادي، أو لعل تلك الذكرى اختبأت خزياً حين كنت أذكر أمها. كنت أذهب كل يوم وأجلس وحدي تحت ظل شجرة الأراك. حاولت استجماع الذكريات فلم أقدر على الإمساك بها. كانت تتسلل هاربة من ذاكرتي كلما كبرتُ. حين رأيت “سُنْجَاتَا” بعد كل هذه السنين وهي جارية في قصر الملك حاولت أن أتحقق من مشاعري فأحسست بغضب عارم يتأجج في كبدي. لم أعرف له سبباً. ذكريات المشاعر القديمة عادت واستحالت شيئاً مشوهاً. “سُنْجَاتَا” لم تعد بتلك البراءة ولا الجموح. كانت مستكينة خاضعة. وخمد ذلك البريق في عينيها وكأنما أسدلت فوقهما غلالة من بؤس العبودية. تمنيت ساعتها أن أصبح تاجراً للعبيد، لأشتريها وأبيعها بعيداً للعرب عبر بحر الجار فلا أراها بعدها أبداً. ثم تمنيت أن أصبح نسراً كاسراً يختطفها بمخالبه ويحلق بها فوق أجواء عَلَوَة ويلقي بها من حالق فتندق عنقها ويطويها النسيان. ولكن كل هذا لا يشفي غليلي. ولذا فقد بقيت وحيداً متوحشاً طيلة هذه السنوات، لا أسمح لأحد أن يقترب مني!!

منقول من منتديات العيلفون جنة عدن.